
منذ اعتلائه العرش شكل مفهوم الحداثة والديمقراطية الخيط الناظم لكل المبادرات الملكية حول الإصلاح. فقد جعل الملك من الحداثة والتحديث ركيزة أساسية لفعل عمومي استباقي مبني على تقدير دقيق لاتجاه دينامية المجتمع المغربي. وحتى الانتقادات التي واجه بها الأحزاب والسياسة والسياسيين والمسؤولين كان دافعها المشترك الدعوة إلى تحديث أسلوب العمل وابداع الخيارات والجدية وتكريس نموذج مغربي في الدولة والحكم والديموقراطية يراعي الخصوصية وإجماع المغاربة حول التوابث الوطنية مع إمكانية الاختلاف حول التقديرات..
النقاش الدائر اليوم حول تعديلات مدونة الاسرة لا يمكنه فصله عن هذا المسار والديناميكية نحو التحديث، بالقدر نفسه الذي لا يمكن فصله عن النتائج المعلنة في الإحصاء العام للسكان والسكنى، وما أظهرته من تحولات عميقة في تركيبة المجتمع، فالانقلاب الذي حدث في البنية الديمغرافية للأسرة المغربية جعل من الضروي استباق التحولات القيمية الحتمية في العلاقات بين الرجل والمرأة داخل الاسرة قبلها وبعدها.
ومع ذلك، لا أحد بادر إلى إلى تأسيس خطاب قوي يدافع عن مشروع المدونة بشكل عميق ومؤسس، فقط بلاغات حزبية جوفاء ممتلئة بالحشو دون أن تقول أي شيء. وحتى نخب الأغلبية الحكومية، التي عودتنا الهجوم على كل من ينتقد رئيس الحكومة في سلوك أغلبي تحكمي غير مسبوق في السياسة والادارة، بلعت لسانها وكأن الأمر لا يعنيها مدفوعة بحسابات انتخابية مقيتة ومرتجفة من ردة فعل الناخبين.
ربما لسوء حظ الإصلاح أنه جاء في زمن حكومي بئيس يقوده تحالف أحزاب سياسية آخر همها الإصلاح المجتمعي العميق. مواقف حزب الاستقلال محافظة وهذا معروف. ومواقف الأصالة والمعاصرة مرتبكة يعززها خطاب سياسي يفتقد إلى هوية واضحة،. أما حزب الأحرار فمجموعة من رجال الأعمال في قلب الحكومة جرفتهم “الهوتة” الانتخابية إلى الحكم.
مقابل هذا الوضع يركب التيار المحافظ على تعديلات المدونة لإطلاق الاشاعات وتأويل النصوص بعقل أصولي جامد، وحولهم يتحلق أصحاب الحسابات الوهمية والحقيقية على مواقع التواصل الاجتماعي يروجون الأكاذيب والمغالطات ويسبون مستقبل الأسرة في سياق المدونة الجديدة.
لقد نجح التيار المحافظ في تشكيل أغلبيات مفبركة وتعديات وهمية على مواقع التواصل الاجتماعي في سياق الحملة ضد الإصلاح. واستدعوا كل أشكالهم من المحافظين الأحياء منهم والأموت لاجل الانخراط في جوقة استهداف تعديلات مدونة ح المغربية. وهكذا سمعنا عن بلاغ لاتحاد علماء المغرب العربي لأول مرة يتهجم على الإصلاح، وسمعنا من قيادات تيارات سلفية تورطوا معنويا في احداث 16 ماي الارهابية يروجون انفس الخطاب الهجومي.. بالمقابل، بعض هذا التشويش صادر عن أشخاص معروفين بمخالفة ثوابت جمهور الأمة المغربية. يختبؤون اليوم خلف عباءة الدين لضرب مشروع إصلاحي يرعاه جلالة الملك.
يُخفي المحافظون الواقفون وراء التشويش على المدونة حقيقة أخرى وراء تهجمهم على التعديلات، وهي أن مواقفهم تشكل تدخلا صريحا في اختصاص حصري لإمارة المؤمنين. فهُم يدركون أن النصوص الشرعية التي يتحججون بها، فحصها المجلس العلمي الأعلى بصفته هياة تعنى بإسلام المغاربة، لكن غاياتهم التشكيك لا التمحيص.
لائحة المغالطات طويلة تتوسع يوما بعد يوم في ظل صمت ما تبقى من النخب الحداثية التي توارت عن الأنظار … حتى اليسار الديمقراطي، الحامل تاريخيا لمشعل التنوير والتحديث والمدافع عن حقوق الإنسان، يعيش أزمة هوية منذ سنوات تمنعه من إنتاج خطاب واضح وقادر عن المواجهة. أما بقايا اليسار الراديكالي الغارق في العناد وإنكار الحقائق فهو مشغول بالبحث عن توصيف سياسي لما حدث في سوريا، ثورة أم مؤامرة إمبريالية!
لاشك أن التعديلات الجديدة لمدونة الأسرة، كما أعلن عنها، تمهد لصياغة تشريعات قانونية متقدمة تزاوج بين مقاصد الشرع ومصالح المجتمع، وطبيعي أن ينشأ على هامش كل إصلاح نظام مقاومة رافض يغذيه خطاب ديني انتقائي كشكل من أشكال الوصاية على المجتمع والدولة والمستقبل أيضاً.