الأخبارركن الميداويمستجدات

إعلام يُمثّلني.. وإعلام يُغيظني

الخط :
إستمع للمقال

يُمثّلني هو ذا الذي يكون على قلب واحد في الأحداث الوطنية الكبرى، والمنجزات الكبرى، وفي المواقف المصيرية. إعلام يضيف على المفردات معاني منبثقة من مخزون قلبه، ويريدها مشتركا إنسانيا مع مواطنيه. إعلام يجتهد في إيصال الرسالة بعفوية متناهية، وفي توجيه البوصلة نحو تقوية جسور المواطنة الصادقة، دون تراشق أو تصادم، ودون تأجيج للمشاعر بغاية زرع الشقاق والتفرقة.

إعلام يمثلني هو ذا الذي يجعل الأحداث الوطنية الكبرى في مستوى من فيها ومن صنعها. قنوات تلفزية ومحطات إذاعية، صحف ورقية ومواقع إلكترونية، منصات تواصلية وقنوات خاصة بأدواتها وتقنياتها. جميعها تشارك في الحدث بمسؤولية وفعالية، وبمواطنة حقيقية مقرونة بالكفاءة في فهمه، ونقله بالدقة والموضوعية اللازمتين.
إعلام يذكرني بصحافتنا الوطنية العتيقة، التي كانت تطالعنا كل يوم بمقالات إخبارية وتحليلية للزميل الفلاني المعارض، والزميل الآخر المُساند، حيث الجسم الصحفي متماسك ومنيع، وكل منبر يجتهد، في حدود قناعاته وأنساقه التحريرية، على صناعة خط تحريري يميزه، ضمن انشغال واحد: تقديم مادة إعلامية نظيفة تسهم في التوعية والتثقيف، في ظل أجواء متحررة، تستوعب تطلعات المتلقي، من دون تهجمات قذرة غدت اليوم سلوكا مألوفا في مشهدنا الإعلامي، وخاصة لدى بعض المواقع والقنوات المنحطة، المسكونة بهاجس الإثارة والشعبوية المفرطة القائمة على تزوير الوعي وبيع الوهم لجمهور المتلقين.
إعلام يمثلني، يقابله للأسف إعلام يُغيظني ويثير في نفسي التقزز والحسرة، كونه يُدمِن في الكذب والإثارة، وتأجيج المشاعر. إعلام شيطاني يتيح لأصحابه تلفيق الأباطيل، والتهجم ولدْغ الجميع، وهم فوق الناس جميعا.
منابر وقنوات تناسلت معها البرامج السياسية والحوارية، وانحطت فيها إلى أسفل المراتب، تقنيات التحاور، وتنوعت أساليب الانحيازات والولاءات لمن يدفع أكثر.منابر أصبحت اليوم، من أهم روافد إعلامنا الاسترزاقي المتسول، بل تحولت إلى شبه مؤسسات “للخدمة بعد البيع”، لبعض الأباطرة الاقتصاديين والسياسيين، وحتى لبعض الأحزاب المتلهفة لأصوات قد لا تأتي.

صحيح أن بعض القنوات الخاصة راكمت خبرة واسعة تتيح لها التفاعل مع المستجدات التقنية التي تميز عالم الميديا بشكل عام، وتساعدها أيضا على تطوير فحوى البرامج الحوارية، بما يقوي شحنة الوعي السياسي للمتلقي المغربي. مثلما لا يجب كذلك، أن نغض الطرف عن المستوى الرديء لمعظم القنوات شكلا ومضمونا. فهاتيك من ضجيج وثرثرة، وأنت تتتابع تلك البرامج والاستضافات السياسوية. وهاتيك من ولاءات ومداهنات، ومن تهجمات ساقطة على الغير، تفوح برائحة الأغلفة المالية والعلاوات السخية، التي تختزل المشهد التسوّلي المريض لبعض قنواتنا الخاصة، الحاملة للشعار البئيس “بارطجيو ألخوت”. قنوات تعتمد نماذج الإثارة والتهجم، كما تفعل قناة الجزيرة في حواراتها المُشعلة للحرائق في الوطن العربي، والتي يتولاها بشكل غليظ ومقزز، الدجال فيصل القاسم، باستضافته شخصيات ذات طبيعة انفعالية واستعراضية، معروفة على العموم بفضائحها السياسية والأخلاقية.
إعلام يغيظني أيضا في برامج “بارطجيو ألخوت” الحوارية، كون أصحابها يتقمصون دور قاضي التحقيق، ويفرضون سلطة الحوار، بما يؤسس لعسكرة الموضوع، وكأننا في مخفر للشرطة. صاحب البرنامج، وهو في نفس الوقت صاحب القناة، يصر على التحكم في الضيف، وفي النقاش، وفي الأجندات السياسية ذات الاتجاه الواحد، مستعرضا قدراته الحوارية الشخصية، على حساب أصول الحوار الهادف والمتكامل. والأخطر في كل هذا أن يتحول صاحب القناة، إلى مُنفّذ لإملاءات قذرة، ضمن لعبة الصفقات السياسية والمادية.

إعلام هكذا يغيظني لأنه يفتقر إلى المهنية، وينطق بخلل ثقافي قاتل، ومعرفة مبتورة المصادر والمراجع، تنم عن بيئة إعلامية ملوثة بالاسترزاق والفساد، يرتفع فيها منسوب الكراهية وزرع الشقاق بين أبناء الوطن الواحد، إلى أعلى المستويات.

ولا يمكننا بالمقابل، إلا أن نُقرّ بحقيقة صادمة، مفادها أن المُتلقين في معظمهم يميلون للأسف، إلى إعلام التهريج والتهييج، ألذي هو إحدى سمات التخلف الاجتماعي والفكري السائد بين عامة المواطنين، ممن يستهويهم الإعلام الفُرجوي، وتأخذ بألبابهم أخبار الفضائح والدسائس والمقالب.

والخلاصة أننا أصبحنا نعيش بين قذارة الإعلام والسياسة. وضعية تفرض علينا الارتقاء بمؤسساتنا الإعلامية التي هي بحاجة إلى مناخ ديمقراطي سليم، وإلى تشريعات قانونية شفافة وواضحة، تحمي المهنة من الدخلاء المتطفلين، من جهة، ومن الانتهازيين الذين يوظفون المنابر الإعلامية لفبركة الرأي، وتكييف الحقيقة وفق مصالحهم الخاصة، من جهة ثانية.

ولا يجوز في هذا السياق، فصل العملية الإعلامية بوظائفها المختلفة عن الديمقراطية، حيث لا مؤسسات ديمقراطية بدون منظومة إعلامية متماسكة تؤمن بالتواصل الأفقي وليس العمودي، وتساهم في تنوير الرأي العام وإشراكه في عملية اتخاذ القرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى