الأخبارركن الميداوي

إقرار الحكم الذاتي للصحراء هو شهادة عرفان لروح الحسن الثاني صانع “المسيرة الخضراء”

الخط :
إستمع للمقال

أول ما لاح بذهني ساعة النطق الأممي بمنح الصحراء حكما ذاتيا تحت السيادة المغربية، صورة الراحل الحسن الثاني بصوته الهادئ يحث المتطوعين من أبناء الوطن، على اختراق الحدود لاسترجاع أقاليمنا الجنوبية، بقوله: “غدا إن شاء الله ستنطلق المسيرة، وغدا إن شاء الله ستلْمَسون رمْلا من رمالكم، وستُقبّلون أرضا من وطنكم العزيز”. نداء تاريخي أطلقه الحسن الثاني يوم خامس نونبر 1975 وتحوّل إلى ملحمة تاريخية تنطق بعبقرية استثنائية اسمها “المسيرة الخضراء”، التي دأبنا على الاحتفال بها كيوم وطني في سادس نونبر من كل سنة. مسيرة احتكمت إلى الشرعية الدولية في أسُسِها وأهدافها، وإلى مبدأ السّلمية كأسلوب حضاري رفيع في وسائلها.

يوم سادس نونبر هو في قلوب المغاربة رمز للسيادة والكرامة، وتجسيد للوحدة والتلاحم. هو حكاية متواصلة لمعاني التضحية والإيمان، وفي الوقت نفسه عنوان للأمل، يلهج فيه المغاربة أجمعين، بالتقدير وطول العمر، للقائد، الملك محمد السادس، الذي يواصل المسير بعزم وإيمان، لبناء وطن شامخ بالعزة والصلابة والرقي.
ذكرى هذه السنة يحكمها استثناء كبير، كونها تخلّد نصف قرن من النهضة التنموية بسواعد ساكنة الأقاليم المسترجعة، ومن يمثلها على مستوى المجالس المنتخبة، من جهة، ومن خلال شراكات عالمية وجدت في المنطقة بيئة جاذبة للاستثمارات في قطاعات عدة، من جهة أخرى.

الذكرى استثنائية أيضا، لأنها تؤرخ لنصف قرن من العمل الدبلوماسي الهادئ لإحباط المؤامرات التي تحيكها، وبلا انقطاع، الجارة الجزائر بغاية إيذاء المغرب وزعزعة استقراره. نصف قرن من الترافع ضده في كل الملتقيات والمؤتمرات الإقليمية والدولية، وداخل الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة، وبنفس أسطوانة تقرير المصير لمواطنين مغاربة يعيشون مرغمين وفي ظروف مزرية وغير إنسانية، في مخيمات تندوف المكوّنة من مزيج من الأقوام، لا تتجاوز نسبة الصحراويين المغاربة فيهم، بضعة آلاف الأشخاص. فيما عدد القبايليين، سكان المناطق الشرقية بالجزائر، وعاصمتها تيزي وزو، يتجاوز الثمانية ملايين نسمة، ويُحرَمون من تقرير المصير الذي تتاجر فيه الجزائر بشكل مزاجي وفق ما يتماشى مع أطماعها.

العقيدة الكيدية التي سكنت حكام الجزائر، ترجمها رئيسها بوضوح في في رده على أجوبة التلفزيون الرسمي، والقائلة ب”عدم التخلي مهما كان، عن مرتزقة البوليساريو، وعن حقهم في تقرير المصير”. كلام ينم عن جهل كبير بإيمان المغرب وتشبّعه القويين بتقرير المصير، لا كما تحوّل اليوم في عهد الزندقة السياسية الساقطة، عن مجراه الحقوقي بعد أن بادرت دول من إفريقيا وآسيا، إلى خلق كيانات انفصالية وهمية من أجل ابتلاعها فيما بعد. ولكن عن تقرير المصير الذي تُقره المعاهدة الدولية للحقوق المدنية لسنة 1966، وتنص بالحرف على “حق كل شعب في حكم نفسه بنفسه، بعيدا عن أي تدخل أجنبي”. بمعنى اختيار السكان شكل السلطة، التي يريدون ممارستها داخل البلد الواحد، بمنأى عن أي تدخل أجنبي. وهو ما يتماشى مع روح ونص مبادرة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب من أجل تسوية سياسية تحترم الشرعية الدولية، وتُجنب المنطقة مزيدا من النزاعات والتوترات. مبادرة تمنح السكان المحليين صلاحيات واسعة لتدبير شؤونهم بإرادة تشاركية، عبر هيئات تمارس سلطتها داخل الجهة، في مختلف المجالات.
وكان ما كان أن أقر المجتمع الأممي برمته، بتاريخ 31 أكتوبر الماضي، المبادرة المغربية للحكم الذاتي في ظل السيادة المغربية والوحدة الوطنية، باعتبارها الصيغة الأمثل لتسوية النزاع بالمنطقة. وترتكز المبادرة على القناعة الراسخة بأن الحل النهائي للنزاع لا يمكن أن يكون إلا سياسيا متوافقا عليه، يتيح مصالحة شاملة بين أبناء المنطقة، تحت إشراف الأمم المتحدة، وبما يضمن مقاربة سلمية مقبولة من لدن جميع الأطراف، ويعزز الاستقرار في إطار السيادة الوطنية.
والمبادرة واضحة كل الوضوح في تحديد اختصاصات الدولة المركزية التي تشمل الرموز الوطنية (العلم والنشيد الوطني والعملة)، إلى جانب الوظائف الدستورية للملك بصفته أمير المؤمنين، والحامي للتماسك الوطني وحريات المواطنين الدينية والمدنية.
وفيما رحب الملك محمد السادس على الفور بالقرار الأممي، داعيا مرة أخرى الشقيقة الجزائر، الطرف الرئيسي في النزاع، إلى نبذ كل الخلافات المُضرة بالعلاقات بين بلدين، تجمعهما روابط اللغة والدين والمصير المشترك، ارتأى البلد الجار التزام الصمت المريب، الناطق باستخفاف متواصل باليد المغربية الممدودة من أجل بناء جسور الثقة بين البلدين، وترميم ما تكسر في العلاقات، مع ترجيح التفاهم على التصادم، وتحويل نقط الخلاف إلى مادة للتحاور.

والمأمول اليوم، أن تجد سياسة اليد الممدودة التي اعتمدها المغرب منذ سنوات، صدى طيبا من لدن القادة الجزائريين، بعد أن أنصف مجلس الأمن كلا من المغرب والحركة الانفصالية، بإقراره حكما ذاتيا يراعي مصالحهما المشتركة، في بيئة تنعم بالأمن والاستقرار، كرافدين أساسيين للإقلاع التنموي المنشود.
والمأمول أيضا من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، التحلي بقيم الأخوة وحسن الجوار، التي تستدعي منه التخلي عن سياسة اجتثاث المغرب من جذوره الإفريقية، التي تبناها جميع من سبقوه من رؤساء، بغاية تقزيم المغرب في بقعة جغرافية معزولة عن عمقه الأفريقي.
ومهما كان الرد الجزائري على المبادرة الملكية، فالمغاربة يشعرون بقدر كبير من الاعتزاز، عندما يسمعون ملكهم يردّ على القطيعة، بالتواصل، وعلى التعنت والغل، بالحب والتسامح. وهي واحدة من الثوابت الموروثة عن أبيه الراحل الحسن الثاني وجده المغفور له محمد الخامس اللذان طالما غلّبا طوال مشوارهما السياسي، الحوار على التصادم.

والمبادرة من هذا المنطلق هي تكملة لهذه التركة من المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقه، والمتجذرة في يقينه بأنه مهما بلغت شدة الخلاف والتصادم، فإنها لن تنال من وهج الترابط العميق الذي تحكمه جذور التاريخ، وروابط الأخوة وحسن الجوار، والكفاح المشترك الذي امتزجت فيه في لحظة من لحظات الكفاح من أجل الاستقلال، دماء الشعبين الشقيقين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى