القليعة.. تساؤلات حول صفقات إنجاز المركب الثقافي ومخاوف من تواجد شبهة تضارب المصالح

عادت قضية المركب الثقافي بجماعة القليعة إلى الواجهة من جديد بعد الأحداث الأخيرة التي شهدتها المنطقة في إطار ما بات يعرف باحتجاجات جيل Z وصدور أحكام ثقيلة في حق المتورطين فيها، ما أعاد فتح النقاش حول مشروع المركب الثقافي الذي أعطيت انطلاقة أشغاله شهر غشت 2022، ومآله، لا سيما في ظل التساؤلات التي أثيرت بشأن صفقة إنجازه وأوجه التدبير المالي واللوجستي لهذه الصفقة. وقد أكدت مصادر موقع “برلمان.كوم“، بعد الاطلاع على الوثائق المتعلقة بالصفقة، أن مشروع بنائه تم تنفيذه عبر صفقتين رئيسيتين، حيث كانت كل منهما محط تساؤلات كبيرة بشأن الشفافية والجدوى المالية.
وحسب ذات المصادر، فإن الصفقة الأولى، رست في البداية على شركة بتكلفة بلغت 9.96 مليون درهم، إلا أنه تم فيما بعد إدخال ملحق (Avenant) على الصفقة الأصلية بمعنى تعديل داخل الصفقة، تضمن إضافة مبلغ آخر تحت ذريعة تغطية نفقات إضافية نتجت عن تعديلات تقنية في التصميم وأشغال إضافية، لكن، ورغم هذه الزيادة في الكلفة، لم تُستكمل الأشغال وفقاً للمقتضيات المحددة في دفتر التحملات الأصلي، مما يُثير مسألة احترام الالتزامات التعاقدية المنصوص عليها في العقد الإداري”، وهو ما دفع الجماعة إلى إطلاق صفقة جديدة تخص الشطر الثاني من المشروع، هذه الصفقة الجديدة قدّرت تكلفتها بحوالي 4.51 مليون درهم ورست على شركة أخرى.

ووفق ذات المصادر، فإن ما وقع يطرح العديد من الأسئلة حول منهجية برمجة الأشطر وتدبير الاعتمادات المالية للمشروع ككل، حيث أظهرت الوثائق أن الشطر الأول عرف، في إطار الملحق، إدخال تعديلات تقنية على بعض مكوناته، وهو ما يمكن أن يكون مبررًا قانونيًا في سياق الصفقات العمومية إذا كانت التعديلات ضرورية، لكن إعادة تكرار بعض الأشغال في الشطر الثاني، يثير العديد من التساؤلات. حيث تم تضمين في دفتر التحملات الخاص بالصفقة الثانية جزء كبير من الأشغال التي كان من المفترض أن تُنجز في الشطر الأول، دون أن تكون هذه الأشغال مجرد تكملة أو تحسين، بل إعادة تنفيذ لبنود يجب أن تكون قد أُنجزت مسبقًا حسب ذات المصادر، وهو ما يمكن أن يشكل، في حال ثبوته، خرقاً لمبدأ وحدة موضوع الصفقة أو ازدواجية في الإنفاق العمومي، ومن بين هذه الأعمال التي تكررت في دفتري تحملات الشطرين الأول والثاني: أشغال التبليط والتغطيات (الأرضيات والجدران)، أشغال الأسقف المعلقة، أشغال النجارة الخشبية والألمنيوم، أشغال الكهرباء والإنارة، أشغال السباكة الصحية، أشغال التهيئة الخارجية.

هذا الوضع، وفقًا للمصادر نفسها، يثير العديد من التساؤلات حول دقة تحديد مكونات المشروع، وما إذا كان قد تم الخلط بين الأشغال أو إذا كان هنالك إعادة برمجة مقصودة للأشغال التي تم إنجازها في إطار الشطر الأول، كما يطرح السؤال الجوهري حول وضوح الرؤية في تدبير هذا الورش، سواء على مستوى توزيع الأشغال أو تحديد كلفتها الفعلية بين الأشطر المختلفة.
وفي جانب آخر، ورغم أن الحصول على الصفقات العمومية يخضع لمساطر واضحة وضعها المشرع، وفقًا لمرسوم الصفقات العمومية رقم 2.22.431، الذي ينص على ضرورة الولوج إلى بوابة مخصصة للصفقات العمومية، مما يفتح المجال لجميع الشركات المتوفرة على الشروط القانونية للمشاركة في الصفقات المعلنة على الصعيد الوطني بغض النظر عن انتماءات أصحابها، كشفت مصادر الموقع عن معطيات متداولة تشير إلى وجود تساؤلات حول احتمال وجود تضارب مصالح بين الجهات التي فازت بصفقات إنجاز هذا المركب والأغلبية المكونة لمجلس جماعة القليعة، وهو ما قد يدخل في نطاق مقتضيات المادة 65 من المرسوم رقم 2.22.431 المتعلق بالصفقات العمومية، التي تمنع مشاركة كل من له مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في المشروع موضوع الصفقة”، وهنا يجب التذكير بأن القانون ينظم الحالات التي قد يشوبها تضارب المصالح لضمان الشفافية والنزاهة في عملية منح الصفقات العمومية.
وفي توضيح رسمي، أكد رئيس جماعة القليعة، محمد بكيز، في اتصال مع موقع “برلمان.كوم” أن مشروع المركب الثقافي يتكون من ثلاثة أشطر، الشطر الأول يشمل الأشغال الكبرى والواجهة وعمليات الكارناج وقد تم إنجازه بالكامل، وأُنجزت بشأنه محاضر التسليم المؤقت وتم أداء مستحقات المقاول المنجز. أما الشطر الثاني، فيشمل الأشغال التقنية الخاصة بـ الكهرباء، الصوتيات، الماء الصالح للشرب، وشبكة الأنترنيت الخاصة بقاعة المسرح، بما فيها الأسقف والتجهيزات الداخلية، وقد أضيفت هذه الأشغال بعدما تبين أنها لم تُنجز في الصفقة الأولى. أما الشطر الثالث فيتعلق، وفق ذات المسؤول، بـ: “التجهيزات المكتبية والحواسيب والكراسي وباقي المعدات التقنية الضرورية لتأهيل المركب وفتحه أمام العموم”.
وأوضح رئيس الجماعة أن المشروع كان مبرمجًا في الأصل ليُنجز في صفقتين فقط، لكن نقص التمويل المخصص لأشغال الكابلاج والصوتيات والشبكة المعلوماتية فرض إضافة صفقة ثالثة، بعد توقيع اتفاقية شراكة مع مجلس جهة سوس ماسة بقيمة أربعة ملايين درهم لتغطية تكاليف التجهيزات. وفي ما يتعلق بسوء تقدير الكلفة الإجمالية للمشروع في شطره الأول، أشار بكيز إلى أنه تم وفق القانون فرض غرامة مالية على المهندس المعماري المكلف بالمشروع، باعتباره المسؤول عن عملية التقدير (maîtrise d’œuvre)، وذلك طبقاً لمقتضيات القانون رقم 30.13 المتعلق بالهندسة المعمارية، الذي يُحمّل المهندس المعماري مسؤولية مهنية في حال الإدلاء بتقديرات مالية غير دقيقة تؤثر على تنفيذ العقود.
أما من حيث الآجال، أكد بكيز أن مدة إنجاز الشطر الأول حُددت في عشرة أشهر، بينما تمت برمجة خمسة أشهر إضافية للشطر الثاني على أن تنتهي الأشغال في دجنبر 2025 ويفتح المركب أبوابه بشكل كامل خلال يناير 2026.
وأشار الرئيس محمد بكيز كذلك، إلى أن المركب الثقافي يعد من أهم المشاريع على صعيد جماعة القليعة، ويضم مكتبة عادية وإلكترونية، قاعات للتكوين، ومسرحاً كبيراً بسعة 564 مقعداً، بالإضافة إلى قاعة حاضنة للمقاولات الصغرى مجهزة بالإنترنت والكهرباء مجاناً لمدة عام واحد لمساعدة الشباب على تأسيس شركاتهم ونموها.
على صعيد الفضاءات الاجتماعية، أقر الرئيس بأن قلة الفضاءات المتاحة تشكل عائقاً أمام استيعاب الشباب، رغم وجود دار شباب وفضاء المعرفة، مؤكداً أن الجماعة تحتضن شباب القليعة والجماعات المجاورة، وتوفر لهم ملاعب القرب، الفضاءات الخضراء، خدمات التعليم، الإنارة العمومية، وجمع النفايات بشكل غير مباشر. كما شدد على أن التمويل المحدود والافتقار إلى منظومة متكاملة مع المجتمع المدني يعيق إخراج مشاريع البنية التحتية إلى حيز التنفيذ، مشيراً إلى أن التعاون مع الجمعيات عبر توفير القاعات وإبرام الاتفاقيات يُعد ضرورياً لتأطير الشباب والحد من الحلقة المفرغة المتعلقة بالانحراف المدرسي والاجتماعي.
وفي ظل هذه التوضيحات، يبقى هذا الملف مفتوحاً على نقاش قانوني وسياسي، يستدعي من الناحية القانونية تدخل أجهزة المراقبة الداخلية والخارجية للجماعات لضمان حسن صرف المال العام، بالنظر إلى ما رافق صفقاته من تضارب في المسؤوليات وما قد يُثيره من شبهة سوء تدبير أو تبديد محتمل للمال العام، خاصة وأن المادة 65 من القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات تُلزم رؤساء الجماعات بحسن تدبير شؤون الجماعة وفق مبادئ الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة، كما أن الفصل 156 من الدستور يؤكد على ضرورة إخضاع المرافق العمومية للمراقبة المستمرة لضمان نجاعة أدائها وجودة خدماتها.





