

بعد الرسالة الأخيرة التي وجهها رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز للملك محمد السادس، التي عبّر فيها عن الموقف الجديد لبلاده من قضية الصحراء المغربية، من خلال اعتبارها مبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب سنة 2007 بمثابة الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية هذا النزاع المفتعل” عاد الملك محمد السادس أمس الخميس لإجراء محادثات هاتفية مع سانشيز جدد له فيها عن تقديره الكبير لمضمون الرسالة التي وجهها إليه في 14 مارس، معتبرا إياها تنسجم وروح خطابه في 20 غشت 2021، وتستجيب لندائه بـ”تدشين مرحلة جديدة وغير مسبوقة في العلاقات بين البلدين“.
وبهذا يظهر أن المحادثات الأخيرة للملك محمد السادس مع بيدرو سانشيز، تبرز الدور الحاسم الذي لعبه الملك لحل الأزمة بين المغرب وإسبانيا، وفتح صفحة جديدة في الشراكة المتعددة الأوجه التي تدمج كل المواضيع ذات الاهتمام المشترك بين البلدين، وهو ما فسرته دعوة الملك محمد السادس لرئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز للقيام بزيارة للمغرب في الأيام القليلة القادمة.
ومن المؤكد أن التطور التاريخي في العلاقات المغربية الإسبانية حدث ويحدث بفضل قيادة الملك الذي يعطي للمملكة مكانة في المحافل الدولية كبلد محترم، وهو أمر مهم في الدول الكبرى لخلق التوازنات الجيوستراتيجية الإقليمية والدولية. وهكذا فإن المغرب يحصد ثمار مواقفه المدروسة والمعقلنة.
وهنا لابد من استحضار الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 68 لثورة الملك والشعب حينما قال فيه الملك محمد السادس: “هناك من يقول بأن المغرب يتعرض لهذه الهجمات بسبب تغيير توجهه السياسي والاستراتيجي، وطريقة تعامله مع بعض القضايا الدبلوماسية في نفس الوقت. هذا غير صحيح. المغرب تغير فعلا، ولكن ليس كما يريدون؛ لأنه لا يقبل أن يتم المس بمصالحه العليا. وفي نفس الوقت، يحرص على إقامة علاقات قوية، بناءة ومتوازنة، خاصة مع دول الجوار. وهو نفس المنطق الذي يحكم توجهنا اليوم في علاقتنا مع جارتنا إسبانيا”.
وأضاف: “صحيح أن هذه العلاقات مرت في الفترة الأخيرة بأزمة غير مسبوقة هزت بشكل قوي الثقة المتبادلة، وطرحت تساؤلات كثيرة حول مصيرها. غير أننا اشتغلنا مع الطرف الإسباني بكامل الهدوء والوضوح والمسؤولية. فإضافة إلى الثوابت التقليدية التي نرتكز عليها، نحرص اليوم على تعزيزها بالفهم المشترك لمصالح البلدين الجارين. وقد تابعت شخصيا وبشكل مباشر سير الحوار وتطور المفاوضات. ولم يكن هدفنا هو الخروج من هذه الأزمة فقط، وإنما أن نجعل منها فرصة لإعادة النظر في الأسس والمحددات التي تحكم هذه العلاقات”. مختتما الفقرة التي تحدث فيها على الأزمة مع إسبانيا بالقول: “وإننا نتطلع، بكل صدق وتفاؤل، لمواصلة العمل مع الحكومة الإسبانية، ومع رئيسها معالي السيد بيدرو سانشيز، من أجل تدشين مرحلة جديدة وغير مسبوقة في العلاقات بين البلدين، على أساس الثقة والشفافية والاحترام المتبادل، والوفاء بالالتزامات”.
لقد استوعبت إسبانيا جيدا مضامين هذا الخطاب والرسائل التي أراد الملك محمد السادس إيصالها للمسؤولين بهذا البلد الجار، حيث سارعت إلى تبني موقف جديد بخصوص قضية الصحراء المغربية بعيدا عن الغموض وحددت بذلك بشكل واضح موقفها الأكثر تقدمًا على المستوى الأوروبي من ملف الصحراء المغربية. بحيث أنه وبالنظر إلى الدور التاريخي البارز لإسبانيا في هذه القضية، فإن الموقف الذي عبّر عنه رئيس الحكومة الإسبانية، إلى الملك محمد السادس، يضع على عاتق إسبانيا مهمة خلق انسجام عميق خاص جدا بين البلدين يتماشى مع مضمون بلاغ الديوان الملكي الصادر أمس والديناميكية التي ستشهدها العلاقة بين البلدين بعد تجاوز الأزمة بينهما.
ويأتي إعلان إسبانيا عن موقفها الجديد بخصوص قضية وحدتنا الترابية، في ظل التطورات التي شهدها هذا الملف والاعتراف التاريخي للولايات المتحدة الأمريكية بسيادة المغرب الكاملة على صحرائه، ناهيك عن مواقف دول جامعة الدول العربية ودول مجلس التعاون الخليجي الداعمة لمغربية الصحراء، بالإضافة إلى افتتاح أكثر من عشرين قنصلية بمدينتي العيون والداخلة، دون أن ننسى الموقف الألماني الذي عبّر عنه الرئيس فرانك فالتر شتاينماير، في رسالة وجهها إلى الملك محمد السادس، أكد له من خلالها أن بلاده “تعتبر مخطط الحكم الذاتي الذي قدم في سنة 2007 بمثابة جهود جادة وذات مصداقية من قبل المغرب، وأساس جيد للتوصل إلى اتفاق لهذا النزاع الاقليمي المفعتل”.
يشكل إذن هذا الموقف الإسباني الجديد، الذي لا يشوبه غموض في أهميته التاريخية والجيواستراتيجية العميقة، نكسة قاسية للجزائر ودميتها جبهة البوليساريو التي ظلت تعتبر إسبانيا بمثابة منطقة الراحة النفسية لها، تتوجه إليها وتحتمي بها طيلة صراعها مع المملكة المغربية، والتي استطاعت بقيادة الملك محمد السادس وحنكته الدبلوماسية أن تحاصر هذه العصابة وحاضنتها الجزائر وتوجه لهما ضربة موجعة أخرى.