اخبار المغربرأي في قضيةمستجدات

الملك محمد السادس: من حماية الحقوق والحريات إلى هندسة الوعي الجماعي

الخط :
إستمع للمقال

في خطاب افتتاح البرلمان يوم 10 أكتوبر 2025، لم يكن تركيز جلالة الملك محمد السادس على القوانين المتعلقة بحماية الحقوق والحريات مجرّد استدعاء تقني للمنظومة التشريعية، بل إعلانًا عن فلسفة حكم جديدة ترى في الإنسان المغربي مركز الثقل لأي إصلاح أو تنمية.

تحدث جلالته عن ضرورة تأطير المواطنين والتعريف بالمبادرات والقوانين التي تمسّ حياتهم اليومية، مذكّرًا بأن هذه المسؤولية لا تقع على الحكومة وحدها، بل هي واجب جماعي يشمل البرلمانيين والأحزاب والمجالس المنتخبة ووسائل الإعلام والمجتمع المدني.

بهذا المعنى، الخطاب الملكي أعاد تعريف العلاقة بين الحقوق والوعي والمواطنة المنتجة.

حين يشير الملك إلى القوانين التي “تهم حقوق وحريات المواطنين بصفة مباشرة”، فهو لا يتحدث عن نصوص جامدة أو إجراءات إدارية، بل عن مشروع وطني يُراد له أن يُنتج إنسانًا واعيًا بحقوقه، مؤمنًا بمسؤوليته، ومشاركًا في البناء العام.

إنها مقاربة جديدة تتجاوز المنظور الكلاسيكي الذي يفصل بين القانون والتنمية، لتجعل من حماية الحقوق مدخلًا أساسيًا لتقوية رأس المال البشري، ولتحقيق عدالة اجتماعية تُوزَّع فيها الفرص بقدر ما تُوزَّع الموارد.

وجاءت الإصلاحات القانونية الأخيرة لتجسّد بوضوح هذا التوجه، خصوصًا قانون العقوبات البديلة رقم 43.22 وقانون المسطرة الجنائية الجديد، اللذان يمثلان نقلة نوعية نحو عدالة إنسانية تُعيد الاعتبار للفرد وتمنحه فرصة الإصلاح والاندماج.

إن قانون العقوبات البديلة، قد نقل السياسة الجنائية من منطق الزجر إلى منطق الإصلاح، باعتماد تدابير مثل العمل لأجل المنفعة العامة، والمراقبة الإلكترونية، وإعادة التأهيل الاجتماعي.

هذه الآليات لا تحافظ فقط على الكرامة الإنسانية للمحكوم عليه، بل تفتح أمامه باب المساهمة في المجتمع بدل عزله عنه، في انسجام تام مع روح العدالة التي أرادها جلالة الملك: عدالة توازن بين الصرامة والإدماج، بين الردع والإصلاح.

أما قانون المسطرة الجنائية الجديد، فقد جاء ليكرّس ضمانات أوسع لحقوق الأفراد، من خلال تعزيز قرينة البراءة والحق في الدفاع والرقابة القضائية، وإدخال مفاهيم حديثة كالعدالة التصالحية والرقمنة القضائية.

بهذا الإصلاح، تتقدم العدالة المغربية خطوة إضافية نحو بناء ثقة دائمة بين المواطن ومؤسساته، بما يجعل سيادة القانون جزءًا من الحياة اليومية لا مجرد مبدأ دستوري.

الرسالة الأعمق في الخطاب الملكي هي أن القانون وحده لا يصنع التغيير، بل الوعي به.

فحين دعا جلالته إلى “تأطير المواطنين والتعريف بالقوانين”، كان يؤكد أن المعرفة القانونية ليست مسألة تخصّ النخبة، بل ركيزة من ركائز الوعي الجماعي.
فالقوانين الجديدة لن تُثمر أثرها ما لم تتحول إلى ثقافة وسلوك، وما لم يُدرك المواطن أن حماية الحقوق مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع.

الخطاب الملكي جاء ليؤكد أن حماية الحقوق ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لبناء إنسان متوازن ومسؤول.
فالقوانين الأخيرة — سواء في مجال العقوبات أو المساطر الجنائية — لا تهدف فقط إلى إصلاح المنظومة القضائية، بل إلى هندسة وعي جديد يجعل من الكرامة والحرية والمسؤولية قيماً يومية في حياة المغاربة.

إن “المغرب الصاعد” الذي تحدث عنه جلالة الملك هو مغرب الإنسان أولاً، حيث تُصان الحقوق بالوعي، وتُمارس الحريات بروح المواطنة، وتُقاس التنمية بمدى عدالة المجتمع وإنسانيته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى