

على عكس ما اعتادت الدول الإفريقية أن تستقبل به الرؤساء الذين تعاقبوا على فرنسا أثناء زياراتهم المتعددة لها، فقد اختارت الشعوب الإفريقية ومعها رؤساء الغابون والكونغو الديمقراطية (حتى كتابة هذه الأسطر) أن يعوضوا مراسيم المجاملة والرياء بالوضوح والمصارحة.
فمنذ الإعلان عن وصول الرئيس الفرنسي إلى الغابون، خرج المواطنون للتعبير عن رغبتهم القوية في فك الارتباط بالمستعمر السابق، وعن رفضهم استمرار الهيمنة الفرنسية في دولهم. وقد التجأ المواطنون في الغابون إلى التعبير عن آرائهم عبر مختلف المنصات الإلكترونية والفيديوهات المصورة، ومن لم يجد سبيلا إليها خرج إلى الشارع وصب جام غضبه على فرنسا عبر الكتابة والرسم على الحيوط والجدران وإحراق العلم الفرنسي، في حين احتج آخرون عبر قرع المواعين والأطباق والصحون.
ولقد سار على هدى الشعب الغابوني جارهم في الخريطة شعب الكونغو الديمقراطية، وكذا رئيسها، الذي أسمع الرئيس الفرنسي ما لم يسمعه أسلافه منذ فترة الاستعمار، في انتظار ما ستجود به قريحة باقي المناطق، ومواطنوها ما لم يوقف الرئيس جولته على مضض.
وبالرغم من الحرج والضيق الذي كان يشعر به إيمانويل ماكرون في هذه الرحلة، التي وصفتها بعض الصحف الفرنسية “بالجولة الملعونة”، فإنه ظل يغالب الكلمات ويخلطها بحركات الارتباك والخجل، كي يوجه الدعوة تلو الأخرى إلى بدء صفحات جديدة في علاقات فرنسا بإفريقيا، والانطلاق في مسار تعاوني مختلف، لكن هيهات هيهات، فالشعوب الإفريقية ذاقت مرارة ما لا تقدر عليه من كل ألوان المهانة والذل والحقارة، من طرف مستعمر الأمس القريب.
ولم يضيع الرئيس الفرنسي فرصة حلوله بدولة الغابون الشقيقة، وهو يعلم، طبعا، بتواجد الملك محمد السادس بها، كي يبعث برسائل مغلفة إن لم نقل ماكرة. ومنها تأكيده على الموقف الفرنسي من الصحراء، كونه محايدا، ولا يميل إلى أي طرف من أطراف النزاع في القضية.
نعم، أعلنها الرئيس الفرنسي بكامل الوضوح، أن دولته فرنسا لا تريد أن تنخرط في مثل هذه الملفات، وأنها ترفض اخذ موقف من مثل هذه القضايا، وإنه إذ يعلنها بدولة الغابون فهو مستعد ليصدح بها خارجها. وللسائل أن يسأل لماذا اختار الغابون كي يعلن هذا الموقف؟ ولماذا أعلنه بكل هذا التشنج اللغوي ؟ولماذا اضطر إلى التعبير بشكل توجسي عن كلام كان يمكن أن ينطق به بطلاقة وأريحية : “في الغابون أو في غيرها، ففرنسا لا يمكن أن تكون إلا محاورا محايدا، ولا يمكنها أن تحشر أنفها في العلاقات والمبادلات”؟.
ولعل الدبلوماسيين المغاربة تلقوا الرسالة بوضوح، وفكوا شفراتها بهدوء، واستوعبوها قدر ما يتسنى لكل منهم أن يستوعبها، في ظل هذا التشويش الذي يرافق رحلة ماكرون إلى إفريقيا. فالرئيس الفرنسي يرد من الغابون على الموقف الملكي الحازم الذي وجهه، يوم 20 غشت 2022، محمد السادس في خطابه إلى الشعب بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، حينما أكد أن المغرب لم يعد يقبل بازدواجية المواقف إزاء قضية الصحراء.
لكن لماذا اختار الرئيس الفرنسي هذا الوقت بالذات كي يبعث بهذه المواقف الرافضة للإنذار الملكي؟ إن الجواب عن هذا السؤال سيبدو بديهيا بالنظر إلى الصفعة التي تلقاها الرئيس ومحيطه بعد نشر مجلة “جون افريك”، لجواب المغرب الواضح على وصف ماكرون الغامض للعلاقات المغربية الفرنسية، بكونها ودية، وبأنه يتواصل مع ملك المغرب كي يدفعا بها نحو الأحسن. أما الرد المغربي، فلا غبار عليه، إذ أكد بوضوح أن العلاقات المغربية الفرنسية لا يمكن وصفها بالودية ولا بالجيدة في كل جوانبها، سواء تعلق الأمر بعلاقات القصر الملكي بالإليزيه، أو بعلاقات الحكومتين، وهذا ما يسميه المغاربة في أوصافهم “الخابية تهرسات وطارو شقوفها).
ولعل فرنسا التي صنعت ملف الصحراء بخداعها ونواياها الخبيثة أيام كان المقاومون المغاربة يتوقون إلى تحرير كامل أراضيهم، وكانت فرنسا تقبض بقوة على العاتق الجزائري، وتعتقد أنها لن تغادر تلك الأرض ولن تحررها، فرسمت الحدود المغربية بعنجهية المزاج والمطامع، دون الاكتراث بالحقوق التاريخية للمغرب، لا يمكنها اليوم أن تتملص باستهتار من هذا الملف، أو القول أنها دولة محايدة…، “في المشمش” كما يقول إخواننا المصريون.
فقل ما شئت يا ماكرون، مادمت أنت وبلدك تلعقان اليوم من القطران الذي لوثتم به الدول الإفريقية، وما دمت، وأنت تتنقل اليوم بين الدول التي نهبتم بالأمس كل خيراتها، ولازلتم اليوم في ثرواتها طامعون وفي غيكم ممعنون، تتلقى الصفعات والمواقف الحازمة، بأنك وبلدك لم تعودوا صالحين لهذه المرحلة.. قل ما شئت أن تقول، فلن يكون إلا ما أرادته الشعوب الإفريقية أن يكون.