بوغطاط المغربي | متى سيتم تجريم “التضبيع” في المغرب؟

التضبيع، هذا السرطان الذي ينخر العقول ويحوّل المجتمعات إلى قطعان سائرة بلا وعي، لم يعد مجرد ظاهرة عابرة بل صار صناعة قائمة الذات. إنه ليس مجرد نشر أخبار زائفة أو تأجيج للرأي العام، بل هو عملية تلاعب منهجية تهدف إلى تفكيك العقل النقدي وتحويل الشعوب إلى أدوات طيّعة لخدمة أجندات خفية. وفي المغرب، أصبح التضبيع سلاحا يُستخدم بوقاحة لإعادة تشكيل الوعي الجماعي وفق مصالح لوبيات تسعى لتوجيه الرأي العام كما تشاء، بعيدا عن المصلحة العامة أو الحقيقة المجردة.
في ساحة التضبيع الإعلامي، يبرز بعض “الصحفيين” أو بالأحرى أشباه صحفيين، كمقاولي زيف بارعين في نشر الأكاذيب وتغذية الفوضى الفكرية. وحميد المهداوي نموذج صارخ لهذه الظاهرة.
عبر قناته في “اليوتيوب”، لا يقدم المهداوي معلومة حقيقية أو تحليلا رصينا، بل يعتمد على لغة الإثارة والمظلومية وصناعة الأعداء الوهميين. خطابه المشحون بالتحريض، المبني على أحكام مسبقة وانفعالات شعبوية، لا يخدم إلا مصالحه الشخصية، بينما يُسهم في خلق حالة من الشك الدائم والتوتر داخل المجتمع المغربي.إن أسلوبه هو وصفة جاهزة لصنع الفوضى وتغذية مشاعر الغضب والانقسام دون أي التزام بأخلاقيات الصحافة أو البحث عن الحقيقة.
مشكلة التضبيع لا تقف عند الإعلاميين المضللين، بل تمتد إلى قنوات التواصل الاجتماعي التي صارت مرتعا للأخبار الملفقة والحملات الدعائية المغرضة. تتسابق منصات “يوتيوب” وصفحات “فيسبوك” وحسابات “تيك توك” في تقديم محتوى يعزز الشعبوية والتجهيل، حيث تحل الإثارة محل الحقيقة، والمواقف المتطرفة محل النقاش الرزين. هذه الفوضى المعلوماتية لا تهدد فقط مصداقية الإعلام، بل تؤسس لمجتمع غير قادر على التمييز بين الحقيقة والخيال، مما يجعل المواطنين عرضة للاستغلال السياسي والاقتصادي.
ومن بين أبرز الأمثلة على هذا النمط الرقمي المتضبّع، يبرز اسم هشام جيراندو، الذي تحوّل من مهاجم للمؤسسة الملكية إلى مبتز وانتهازي يوظف خطاب “محاربة الفساد” كواجهة لتصفية حسابات شخصية وممارسة الابتزاز الإعلامي.
عبر قناته “تحدي”، لا يقدم جيراندو نقدا مسؤولا، بل يبث شائعات مغرضة واتهامات عشوائية في قالب شعبوي تحريضي، مستهدفا شخصيات ومؤسسات دون أدلة… والأخطر أنه يباشر في ذات المحتوى، وبكل وقاحة، عمليات ابتزاز صريحة وعلنية تحت غطاء خطابٍ يستهدف عموم المتابعين بأسلوب مشحون بالعواطف والاتهامات، فيزرع الشك ويغذي الكراهية ويصنع أعداء وهميين، مساهما بذلك في تحويل وسائل التواصل إلى أدوات تجهيل ممنهج لا تخدم سوى أجندات خفية ومصالح ذاتية.
إن تجريم التضبيع لم يعد مجرد خيار بل ضرورة وجودية لحماية الوعي الجماهيري… بدون قوانين رادعة تحظر نشر الأخبار الزائفة وتحاسب محترفي التلاعب بالعقول، سيظل الرأي العام المغربي عرضة للابتزاز والتضليل. المطلوب هو إطار قانوني يفرض أخلاقيات الإعلام، يمنع استخدام المنابر الصحفية كأدوات تضليل، ويحاسب من يحترف الكذب والتلاعب. محاربة التضبيع لا تعني تكميم الأفواه أو تقويض حرية التعبير، بل تعني حماية المجتمع من غزو التضليل وصناعة الجهل.
لكن تظل التشريعات وحدها ليست كافية. والمواجهة الحقيقية تبدأ من تعزيز الوعي النقدي، عبر دعم الصحافة الوطنية، وتشجيع ثقافة التحقق من الأخبار، والامتناع عن مشاركة المحتويات المشبوهة التي تغذي التضبيع. وعلى المواطن المغربي أن يدرك أن المعركة اليوم ليست سياسية فقط، بل معركة فكرية ضد التلاعب بالعقول. لا يمكن محاربة التضبيع دون وعي مجتمعي يدرك مخاطره ويقف في وجه تجار الفتنة الإعلامية.
في النهاية، التضبيع ليس ظاهرة عابرة، بل هو مشروع مُمَنهج لإعادة هندسة العقول وفق أهواء أطراف مستفيدة. السكوت عنه يعني السماح بترسيخه، ومواجهته تعني الدفاع عن آخر حصون الوعي في معركة لا تحتمل الحياد. تجريم التضبيع هو أول خطوة لاستعادة الحقيقة، لكن التحدي الحقيقي هو خلق وعي جماهيري قادر على كشف ألاعيب محترفي الكذب الإعلامي، وإغلاق الطريق أمامهم قبل أن يحولوا العقول إلى مستعمرات دائمة للتضليل.