الأخبارمجتمع

تفوُّق الدارجة على الفصحى كونها جزء من نشأتنا الكلامية وتعبير عفوي بليغ عن ملامح الإنسان المغربي وقسماته

الخط :
إستمع للمقال

من باب المؤكد أن رجال اللغة ومعهم صناع الإبداع الثقافي بلغة الضاد سيمطرونني، حال إطلاعهم على رأيي بشأن لغتنا العربية، بأرذل الصفات وأحقر النعوت بعد أن يُمشتقوا سلاح العروبة والذاكرة والإسلام والهوية.. ورأيي وإن أغضب هؤلاء، هو أن اللغة العربية لغة أجنبية على المواطن، وإن لم تكن كذلك، فهي على الأقل لغة غريبة بالنسبة لعامة الناس والمثقفين على السواء. فكم منا يستطيع الحديث بطلاقة باللغة الفصحى دون أن يتردد في البحث عن شكل الكلمة التي سيتلفظ بها بدلا من التركيز علي فحوى الموضوع؟  وإذا كان مجال التخيل والتفكير مرتبط أشد ارتباط باللغة، وبمستوى التمكن منها، كما يؤكد ذلك اللسانيون، فكم من المغاربة قادر على أن يؤسس لأفكاره وخياله دون التمسك بجذور اللهجة الدارجة المتجدرة في أعماق هويته واالمستنبتة من صميم بيئته.

لا ينفع في شيء التعصب للغة العربية التي وإن كانت تعبر في عمقها عننبضات المجتمع ومعتقداته، كونها لغة القرآن الكريم، فهي تبقى غريبة عن النشأة اللغوية المغربية تداولا واستعمالا، حيث اللغة الدارجة تشكل كنزا تراثيا متراكما بكل تناقضاته وتنوعاته. وحجتنا في ذلك كون البرامج الإذاعية والتلفزية أكانت ثقافية أو اجتماعية وحتى سياسية واقتصادية كلها تبث باللغة الدارجة. 

وليس من العيب في شيء أن يلجأ بعض الكتاب والشعراء والروائيين والإعلاميين إلى سكب بعض المفردات من اللغة العامية في اللغة الفصحى لتشكل شحنة معبرة بشكل أقوى عما يعتمل في نفوسهم.. قد يعتبر البعض توظيف الدارجة هلاكا بطيئا للغة الفصحى، وقد يرى فيه البعض الآخر لمسة إبداعية تضيف جمالا لجوهر اللغة الفصحى. ومن هنا فإن التحاور بين الفصحى والدارجة عند هؤلاء ليس مبرره أن الأولى ذات تركيبة معقدة صعبة النفاذ،والثانية تتميز بإيقاعات نافذة، ولكن ليبينوا قوة نفاذ الدارجة في كيان مجتمع نما وترعرع في أحضانها.

وحقيقتنا هو أنه عندما باشرنا الدراسة في سن السادسة، كانت حصيلتنا من مفردات اللغة العربية قليلة لا تتعدى ألف كلمة في أحسن الأحوال. وقفنا على حقيقة صادمة لأن لغة القراءة والكتابة التي سنتعلمها هي لغة شبه أجنبية عنا أو على الأقل غريبة وإن كانت تسمي اللغة العربية..

بدأنا نفهم أن الجرانة هي الضفدعة وأن الحولي هو الكبش وأن البنان هو الموز وأن ألصباط هو الحذاء، وأن خيزو هو الجزر، سيل من المفردات غريبة عن نشأتنا الكلامية. المفردات التي كنا نتداولها بين الأصدقاء وفي البيت لا تمت بصلة إلى لغتناالفصحى، بينما كانت حصيلة أطفال فرنسا على سبيل المثال قبل دخولهم إلى المدرسة 16.000 كلمة 97 % لا يختلف عما سيجده في الكتب المدرسية، وأطفال بريطانيا 17.000كلمة.

وإذا صدقنا رجال اللغة والأبحاث الحديثة القائلة إن الطفل يركز جهدا وطاقة هائلين في سنواته الأولي وحتي الخامسة من عمره، لإتقان اللغة التي سيقرأها ويتعلمها لتكون الأداة المعبرة عن نفسه، وإذا ضاعت منه هذه الفرصة، فلن يتقنها مهما حاول ذلك فيما بعد، فإننا نتخيّل كلنا المسافة التي تفصلنا عن لغتنا الفصحى وتعبيرا وإنشاء. وحينما نفهم أننا نعيش في مجتمع نصفه أمي آنذاك تتضح أكثر السمة الغريبة والأجنبية للغتنا العربية. ولعل الكثيرين من تلامذة الستينات والسبعينات من أمثالي استحضروا انتظار الأم أو الأب قدوم أبنائهم لترجمة رسالة توصلت بها العائلة من الابن المهاجر أو من الأقارب ، من اللغة العربية إلى الدارجة. 

ولما كانت كل الأجيال  السابقة تترك للأجيال اللاحقة كنوزا ثمينة من التراث الشفوي والمكتوب، فإننا حينما نستحضر رصيدنا من هذا التراث بصنوفه المختلفة (أمثال، أزجال، أشعار، حكم…)، نتبين أن معظمه جاءنا باللغة الدارجة التي شكلت على مر السنين جانبا مهما من أسلوب عيش الإنسان المغربي وملامحه وقسماته ومعتقداته. ومن منا لا يقر بأن فن الملحون هو ديوان المغاربة إبداعا وتأليفا حيث تتوهج شعلة الكمة الدارجة  المنغومة لتنقل بمعانيها وتراكيبها زخما من ذكريات أهل تافبلالت ومكناس وفاس وسلا ومركش حيث نما وازدهر هذا الفن. وقصيدة الملحون هي سعر عامي مكتوب بالدارجة مع اقتراض بعض المفردات من اللغة العربية تعطيه شحنة جمالية أقوى.

وفي كل ما نصادفه من كتب حول الحكم والأمثال الشعبية المغربية التي هي تعبير عفوي بليغ عن نبض الأمة وروحها، لم أعثر سوى على قلة قليلة جدا من الأمثال المغربية الصرفة المنقولة بالعربية الفصحى. والسبب ببساطة هي أن الأمثال المأثورة مثل الحكايات الشعبية التي كنا، قبل النوم، نكوّن بها وجداننا كأطفال، ولا يمكن للفصحى آنذاك أن تنفذ في غربال الأذن المتعودة على الدارجة المنسابة والمعبرة. 

ولكن، أن يكون للغة العربية حضور باهت في النمط التعبيري للمجتمع، فهذا لا ينال في شيء من قوة هذه الأداة التي حملت لنا الإسلام وما انبثق عنه من إشعاع حضاري، وجسدت منذ عهود غابرة أفكارنا وأحاسيسنا، وهي اليوم من أهم مقومات وجداننا وكياننا. اللغة التي اعتبرها المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير، “أم اللغات وأقواها تعبيرا على الإطلاق”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى