
يبدو أن مدة المحكومية السجنية الطويلة التي قضاها توفيق بوعشرين داخل السجن، على خلفية قضايا اعتداءات جنسية، قد جعلته يزيغ عن فهم حاكمية الشرع وحاكمية البشر، وأخرجت من تلابيبه مفاهيم مغلوطة تلامس التطرف والجهل على حد سواء.
فتوفيق بوعشرين، وهو يُعقب على تصريحات وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق ، بشأن مرئياته للدولة العلمانية ، أستل نصل الجهل من غمد التطرف، وانبرى يفتي بغير علم، ويُشرّع بغير هدي من الدين والقوانين الوضعية.
ويذكرني موقف توفيق بوعشرين من كلام الوزير بصولات مشايخ الأزهر عندما هاجموا زميلهم الشيخ علي عبد الرزاق بعد إصداره لكتابه الشهير “الإسلام وأصول الحكم”، والذي اعتبر فيه الإسلام دينا لاهوتيا لا يمكن أن يتدخل في جميع مناحي حياة البشر.
كما نستحضر، ونحن نطالع مقال توفيق بوعشرين، انتفاضة جماعة الإخوان المسلمين بمصر عندما “نصحهم” الطيب أردوغان بعد ثورة 25 يناير بضرورة انتهاج الدولة العلمانية وفق النموذج التركي.
ومما ترشح به الذاكرة في هذا المجال، هو تأصيل أردوغان لمفهوم الدولة العلمانية الذي اعتبره غير مرادف للدولة اللادينية! مؤكدا بأنها ليست ضد الدين أيضا، بل إن الدولة العلمانية في النموذج التركي هي من تضع أصحاب الديانات والمعتقدات داخل البلد على مسافة واحدة بدون تمييز بينهم.
لكن المؤسف حقا هو أن يبتذل توفيق بوعشرين النقاش حول موضوع معقد وشائك دون إمساك بناصية المنهج العلمي السليم، مما جعله يسقط في فخ التمييز بين المؤمنين والعلمانيين! وكأن جميع العلمانيين غير مؤمنين أو ربما مشركين وملحدين.
والحال أن بهذا المنطق المعيب إنما يسيء توفيق بوعشرين للكثير ممن دافعوا عنه، ممن يتدثرون بالعلمانية من اليساريين والحداثيين. فكل هؤلاء يعتبرهم توفيق بوعشرين غير مؤمنين بصريح كلامه ومنطوق مقاله.
وبغض النظر عن ازدراء توفيق بوعشرين للعلمانيين، بعدما سحب منهم نعمة الإيمان وصفة المؤمنين، فإن مقاله جاء قاصرا عن استيعاب مفاهيم جديدة تناولت العلمانية في علاقتها بالإسلام وليس في علاقتها الصدامية مع الدين المسيحي.
فقد كان حريا بتوفيق بوعشرين أن يتمحص مليا في مرتكزات “العلمانية المؤمنة”، التي تجمع بين الإيمان والعلمانية في نسق سياسي واحد. ففي كتابه “العلمانية المؤمنة: الفهم غير الأيديولوجي للإسلام»، يرى الكاتب الأردني سامر خير أحمد أن العلمانية المؤمنة لا تعني «فصل الدين عن الدولة»، وإنما «فصل رجال الدين عن الدولة»، وأنها تستهدف بناء دولة مدنيّة تقوم على القانون والمؤسسات، ومجتمع ديمقراطي يحترم التعددية والاختلاف، ولهذا فهي لا تسعى لأدلجة الدولة أو تنميط المجتمع، وإنما تطرح برامجها ذات الصبغة الإسلامية، من دون ادعاء أنها «الحل» بالضرورة.
والعلمانية المؤمنة عرفها أيضا المفكر والفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز، بأنها محايدة مع الميول للدين، مستدلا بحالة أميركا وبريطانيا، التي قال أنهما ينتهجان علمانية متدينة نوعا ما، بدليل أن الدولار الأميركي نفسه يُظهِر بوضوح العلمانية المتدينة في شعاره “نثق في الله” (in God we trust).
ولا يسعنا كذلك في هذا المقام إلا أن نذكر توفيق بوعشرين بأن العلمانية في إطلاقها لا تعني إنكار الدين وتجفيف منابع الإيمان من أفئدة الأفراد والجماعات. فهو عندما يدعي ببساطة في السرد والمنطق بأن المغرب صار بلدا لا دين له، إنما يستحضر مفاهيم تختلف عن العلمانية في السياق والمقاصد والكفايات، لاسيما مفهومي اللائكية واللادينية.
والمغرب عندما ينص في دستوره على أن الإسلام دين الدولة، فهو لا ينفي باقي الديانات ولا يزدريها، بدليل تنصيصه على المكون اليهودي وحرية المعتقد. وكما يقول الفقهاء فالعبرة بالمعاني وليس المباني، وبالتالي لا يمكن اعتماد هذه المادة في الدستور للجزم بدينية الدولة المغربية.
وإمعانا في التوضيح، فالعلمانية تعني حاكمية البشر في التشريع وليس حاكمية الشرع، وهنا نسأل توفيق بوعشرين عن القانون الذي حوكم به في قضاياه الجنائية الأخيرة. هل حوكم بالشرع الإسلامي أم بالقانون الوضعي؟
فمعظم القوانين الوطنية هي وضعية ومستوحاة من التشريعات المقارنة والاتفاقيات الدولية، باستثناء بعض النصوص القليلة المستمدة من التشريع الإسلامي، مثل الإفطار جهرا في رمضان بدون مبرر مشروع، وأحكام مدونة الأسرة المرتبطة حصريا بالنصوص الدينية.
ومن حسن حظ توفيق بوعشرين أنه استفاد في محاكمته من علمانية التشريع ومن حاكمية البشر، لأنه لو حوكم بالشرع الإسلامي بسبب قضايا الخيانة الزوجية والاغتصاب وهتك العرض لكان مآله الرجم حتى الموت، وكان سيمنع من ظروف التخفيف التي تجعل الحد هو الجلد بسبب أنه متزوج وليس عازبا.
وفي المحصلة، وبعيدا عن الإسفاف الذي حاول أن يقودنا إليه توفيق بوعشرين، لا بد أن نستحضر هنا عرضا وسطيا للعلمانية قدمه المفكر عبد الوهاب المسيري في كتابه الشهير “العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة”.
فهذا المفكر الكبير، على خلاف توفيق بوعشرين، لم يعتبر العلمانية مارقة من الإيمان ولا مناقضة للإسلام، وإنما اهتدى إلى أن العلمانية هي إطلاق العقل الكلي في حل الجزئيات والكليات، دون أن ينكر الدين ولا يسقطه من معتقد الناس والجماعات.
وختاما، نحن هنا لا ندافع عن تصورات الوزير أحمد التوفيق للعلمانية ولأصول الحكم في المغرب، وإنما نواجه تهافت غير الماسكين بناصية العلم، وغيرهم من المنافقين ممن يعلمون جيدا بأن المغرب ليس دولة دينية في إطلاقها وعموميتها، بدليل أن تشريعاته هي من حاكمية البشر، بينما تنظم حاكمية الله معتقدات المخلوق في علاقته بالخالق.