جماهري يكتب: التدبير السياسي للحكم الذاتي و..مرتكزات تحيينه!

تحدث عبد الحميد جماهري، رئيس تحرير ومدير نشر يومية الاتحاد الاشتراكي، في عموده “كسر الخاطر”، في عدد الجريدة ليوم غد الأربعاء، عن الاجتماع الملكي الهام الذي جمع مستشاري الملك محمد السادس مع زعماء الأحزاب الوطنية، بحضور كبار المسؤولين الحكوميين، من أجل مناقشة تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء المغربية، حيث أبرز أن هذه اللحظة تمثل محطة مفصلية في تاريخ المغرب الحديث.
واختار جماهري لعموده “كسر الخاطر”، المتعلق بهذا الموضوع، عنوان ” التدبير السياسي للحكم الذاتي و..مرتكزات تحيينه!”، جاء فيه ما يلي.
يشكّل الاجتماع الذي تمّ بالديوان الملكي، والذي ترأسه مستشارو جلالة الملك، السادة الطيب الفاسي الفهري، وعمر عزيمان، وفؤاد عالي الهمة، مع زعماء الأحزاب الوطنية الممثَّلة في مجلسي البرلمان، بحضور كل من وزير الداخلية ووزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، صورة عن دقّة المرحلة ودقّة المهمة.
ولعلّ اللحظةُ لحظة مفصلية، غير مسبوقة في تاريخ المغرب الحديث، حيث يكون على المغاربة، ملكا وشعبا وقوى حيّة، تدبير وحدة ترابهم من زاوية مختلفة عن المعتاد، وبالضبط من زاوية الحكم الذاتي.
والتدبير السياسي الحالي لتحيين مبادرة الحكم الذاتي يستوجب الوقوف عند العناصر التالية:
1)اللحظة هي لحظة تنزيل التزامٍ ملكيّ باسم البلاد، يتعلق بـ«تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي، في إطار السيادة المغربية»، تنفيذًا للقرار الملكي الوارد في الخطاب السامي لجلالته إلى الشعب الوفي، بتاريخ 31 أكتوبر الماضي، في أعقاب صدور قرار مجلس الأمن رقم 2797. كما أنها لحظة الربط بين الوفاء بالالتزام ومآل التراب الوطني وحسم وحدة البلاد، مع ملاحظة الحرص على التفاعل السريع مع قرار مجلس الأمن بين 31 أكتوبر و10 نونبر.
2)الاجتماع تأصيل متجدّد لأسلوب ملكي التُزم به في القضايا المصيرية، التي تتعلق بتعاقدات جوهرية، منها التعاقد المجتمعي حول مدوّنة الأسرة (2004)، والمشاورات التشاركية الواسعة حول المصالحة الوطنية الشاملة (2006)، وكذلك المشاورات الكبرى التي عرفتها إعادة التأهيل الترابي والإداري للمملكة من خلال اللجنة الاستشارية للجهوية (2010)، التي ترأسها عمر عزيمان نفسه، وهو ما يمكن اعتباره امتدادا لمهمته الترابية، علاوة على دستور المملكة (2011)، ثم النموذج التنموي الجديد (2021).
3)الأحزاب الوطنية الممثَّلة في مجلسي البرلمان، علاوة على كون حضورها حضورا لقوى حيّة داخل البلاد، فهي تجسيد لمبدأ سيادي يضمنه الدستور، باعتبار أن السيادة تمارسها الأمة، إمّا بشكل مباشر عبر الدستور، أو بشكل غير مباشر عبر ممثليها في البرلمان.
4)إشراك القوى السياسية الحاضرة لتقديم تصورات ومقترحات تنظيماتهم بشأن تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي، يعني تعاقدا متجدّدا مع القوى الفاعلة على ما سيترتب مستقبلا عن قرار مجلس الأمن، بناء على مبادرة المغرب حول الحكم الذاتي.
ولا بدّ من التشديد هنا على أنّ العملية تهمّ إشراك الفاعل السياسي الحزبي في بلورة تصورات ذات علاقة بالشؤون الخارجية المرتبطة بسيادة الأمة وطبيعة الدولة، وهو مجال محفوظ للملكية دوما، ما يرفع من قيمة الدبلوماسية الحزبية التي نوّه بها الملك في خطبه، ولا سيّما في الخطاب الأخير، كما يتضح من حضور المسؤولين عن القطاع الخارجي.
5)ترك الباب مفتوحًا لمشاركات من خارج الحضور الحالي، لأن القرار الملكي يشمل كذلك إشراك «مختلف المؤسسات والقوى الحية للأمة»، وهو ما قد يؤدي إلى مشاورات أوسع مع هيئات أخرى ومجموعات تفكير وخبراء.
المستوى الثاني: محددات التحيين المبدئية
لا يمكن أن نغفل أنّ التحيين نفسه تحكمه التطورات الداخلية للنصوص التنظيمية للمملكة وترابها وسيادتها الداخلية. وفي هذا الباب، لا بد من تسجيل العناصر التي يمكن أن يتجدد على أساسها التحيين الذي أعلنه الملك، وينتظره المجتمع الدولي:
1)في إطار رصد تطور الهندسة الترابية، يجب أن نذكر أن المقترح تقديمه سنة 2007، أي تحت مظلة دستور 1996، وقبل أن يتم تنصيب اللجنة الملكية الاستشارية حول الجهوية الموسّعة (2010)، والتي سبق ذكرها، و التي قدّمت تصورًا يمكن تلخيصه في خلق تغيير حقيقي في طبيعة الدولة، وفي طبيعة التأهيل المؤسساتي العميق الذي يتطلبه التغيير.
وهو ما يفتح الباب نحو تحيين أوسع مما تم تقديمه، خارج المبادئ الكبرى الثابتة.
2) التطور الذي لمس الدستور، إذ لا شك أن التغيير الذي حصل مع دستور المملكة في 2011، سيرخي بظلاله على المستجدات المقدمة في إطار الالتزام الملكي الدولي. وأيضا من خلال النموذج السياسي الذي رسخه..
3) لا يمكن أن نغفل «الـنحو التوليدي» الذي كان وراء الحكم الذاتي سواء في ما يتعلق بالتغير في ممارسات الدولة أو في ما يتعلق بالمصالحة التي تمت بين الصحراء والدولة، أو في ما يتعلق بمقترحاتها في مجال التنمية الجهوية..
4)إشراك القوى السياسية الحاضرة لتقديم تصورات ومقترحات تنظيماتهم بشأن تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي، يعني تعاقدا متجدّدا مع القوى الفاعلة على ما سيترتب مستقبلا عن قرار مجلس الأمن، بناء على مبادرة المغرب حول الحكم الذاتي.
ولا بدّ من التشديد هنا على أنّ العملية تهمّ إشراك الفاعل السياسي الحزبي في بلورة تصورات ذات علاقة بالشؤون الخارجية المرتبطة بسيادة الأمة وطبيعة الدولة، وهو مجال محفوظ للملكية دوما، ما يرفع من قيمة الدبلوماسية الحزبية التي نوّه بها الملك في خطبه، ولا سيّما في الخطاب الأخير، كما يتضح من حضور المسؤولين عن القطاع الخارجي.
5)ترك الباب مفتوحًا لمشاركات من خارج الحضور الحالي، لأن القرار الملكي يشمل كذلك إشراك «مختلف المؤسسات والقوى الحية للأمة»، وهو ما قد يؤدي إلى مشاورات أوسع مع هيئات أخرى ومجموعات تفكير وخبراء.
المستوى الثاني: محددات التحيين المبدئية
لا يمكن أن نغفل أنّ التحيين نفسه تحكمه التطورات الداخلية للنصوص التنظيمية للمملكة وترابها وسيادتها الداخلية. وفي هذا الباب، لا بد من تسجيل العناصر التي يمكن أن يتجدد على أساسها التحيين الذي أعلنه الملك، وينتظره المجتمع الدولي:
1)في إطار رصد تطور الهندسة الترابية، يجب أن نذكر أن المقترح تقديمه سنة 2007، أي تحت مظلة دستور 1996، وقبل أن يتم تنصيب اللجنة الملكية الاستشارية حول الجهوية الموسّعة (2010)، والتي سبق ذكرها، و التي قدّمت تصورًا يمكن تلخيصه في خلق تغيير حقيقي في طبيعة الدولة، وفي طبيعة التأهيل المؤسساتي العميق الذي يتطلبه التغيير.
وهو ما يفتح الباب نحو تحيين أوسع مما تم تقديمه، خارج المبادئ الكبرى الثابتة.
2) التطور الذي لمس الدستور، إذ لا شك أن التغيير الذي حصل مع دستور المملكة في 2011، سيرخي بظلاله على المستجدات المقدمة في إطار الالتزام الملكي الدولي. وأيضا من خلال النموذج السياسي الذي رسخه..
3) لا يمكن أن نغفل «الـنحو التوليدي» الذي كان وراء الحكم الذاتي سواء في ما يتعلق بالتغير في ممارسات الدولة أو في ما يتعلق بالمصالحة التي تمت بين الصحراء والدولة، أو في ما يتعلق بمقترحاتها في مجال التنمية الجهوية..
4 تحضر كذلك في خلفية التحليل نتائج ومكتسبات الجهوية والنموذج الجهوي في أقاليمنا الجنوبية ابتداء من 2015 إلى 2021، إذ قدمت التجربة كل احتياطها الإصلاحي والتنموي، مما أدخل المنطقة في بعد جيوسياسي واقتصادي آخر غير الذي انطلقت منه..
وتجدر الإشارة إلى الربط المستمر في كل الخطب بين الجهوية والصحراء: (نموذج خطاب 06 نونبر 2012 الذي تحدث فيه الملك عن الجهوية الموسعة في الصحراء «كمرحلة متقدمة على أساس التدبير الواسع للشؤون المحلية»، وذلك ضمن جهوية متقدمة يتم تفعيلها بإرادة سيادية وطنية).
الجهوية المتقدمة التي أطلقناها وكرسها الدستور الجديد ورشٌ كبيرٌ يتعين تدبيره بكامل التأني والتبصر، ليكون تفعيلها كفيلاً بإحداث تغيير جوهري وتدريجي في تنظيم هياكل الدولة، وأيضا في التعاقد السياسي والتعاقد المجتمعي.
ولعل المنطقة عرفت مراحل متباينة في التجربة الترابية: الأولى مرحلة من 1975 إلى 2015؛ والثانية من 2015 إلى الآن، والثالثة من 2025 إلى ما بعدها، في إطار مرجعي جديد…
5) النموذج التنموي الجديد الذي تمت الموافقة عليه وحصل حوله تشاور واسع، كان له تعريف للتراب والهوية الترابية للمملكة (جماعة الجماعات).
6) الالتزام المغربي الأممي والتعاقد مع المجموعة الدولية، وذلك من خلال التنصيص في مقترح 2007 على أن «المملكة تبقى مستعدة للتعاون التام مع الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الشخصي، والتفاعل مع مقترحات الأمم المتحدة ذات الصلة، ومع الأحكام الدستورية المعمول بها في الدول القريبة من المغرب جغرافيًا وثقافيًا». وهو مشروع يقوم على ضوابط ومعايير معترف بها عالميًا.
ويُبَيِّن مقترح الحكم الذاتي أنه «مبادرة مغربية للتفاوض على أساس احتفاظ الدولة باختصاصاتها في ميادين السيادة، لا سيما الدفاع والعلاقات الخارجية، وعلى أساس الاختصاصات الدستورية والدينية لجلالة الملك أمير المؤمنين، ومقومات السيادة، لا سيما العلم والنشيد الوطني والعملة».
إن هندسة التوافق تنبني على أرضية تنطلق من أجل إيجاد نموذج مغربي- مغربي للحكم الذاتي، كما فعلنا مع هيئة الإنصاف والمصالحة، وكما فعلنا مع الجهوية ذاتها، ورفض اللجوء إلى التقليد الحرفي أو الاستنساخ الشكلي للتجارب الأجنبية. كما أن الدستور، في بلاد قوية بالمؤسسات، ضمانة يجب تحيينها أيضًا ضد كل توجس. وقد أشار في الديباجة إلى أن المغرب متعدد الروافد، وعلينا أن نَسْتَأْنِس بـ»مغرب الحكومات المتعددة… المتعايشة».
ويمكن أن نقرأ مجددًا التاريخ المغربي وعلاقات السلطة المركزية بالتخوم، سواء في سوس أو في الصحراء أو في الشمال، ونعيد قراءة اللامركزية في الدولة السلطانية.
نحن أمام تحول جذري في الإصلاح الترابي للدولة يمس المفهومين المؤسسين للهوية السياسية المعاصرة: الوطن والمواطنة، وبالتالي يواجه عقلنا السياسي الجماعي سؤالًا مركزيًا جديدًا.





