حين التقط جيل Z المعنى الحقيقي لـ”المغرب بسرعتين” هو أوليغارشية جديدة… وقطاع عام يحتضر

حين تحدث الملك محمد السادس عن المغرب الذي يسير بسرعتين، فهمنا نحن –جيل اليافعين والكاهلين– أن المقصود هو الفارق التنموي بين الجهات، بين المدن الكبرى التي تضيء ليلها بالكهرباء والمراكز الصحية الحديثة، والقرى التي يقطع أهلها الكيلومترات من أجل أبسط الخدمات.
لكن جيل Z لم يتوقف عند هذا المعنى. هذا الجيل الذي يعيش على نبض الإنترنت، يملك وعياً فطرياً بالعدالة الاقتصادية والاجتماعية. التقط بسرعة أن السرعتين ليستا جغرافيتين فقط، بل اقتصاديتان وإنسانيتان: مغرب للامتيازات والمصحات الخاصة والسيارات الفارهة، ومغرب آخر للانتظار في الطوابير والموت البطيء في المستشفيات العمومية. مغرب سرعة القطاع الخاص وخصوصا الشركات الكبرى على حساب سرعة القطاع العمومي و خصوصا في القطاعات الإجتماعية المهيكلة كالصحة و التعليم.
جيل Z يرى كيف تُبنى المصحات الخاصة في كل حي كما تُبنى المقاهي، وكيف تُشيَّد الملاعب والمنشآت الضخمة في زمن قياسي، بينما تئن المستشفيات العمومية تحت وطأة الإهمال ونزيف الأطر وغياب العدالة في الولوج للعلاج.
يرى بأم عينيه كيف تُعبَّد الطرق إلى الملاعب أسرع مما تُعبَّد الممرات إلى المستشفيات، وكيف تُفتح قاعات الـVIP قبل أن تُجهَّز أقسام الإنعاش.
تتشكل أمام أعينهم أوليغارشية جديدة تتحكم في وسائل الإنتاج والخدمات، بلا رقيب ولا ضوابط، بل على العكس إستفادة هائلة من الدعم الحكومي الذي كان سابقا يصب في صندوق المقاصة لدعم مجموع المواطنين ووسط غياب تام لأي سياسة حكومية لتقنين هذا التوحش الاقتصادي.
لقد فهم الشباب جيداً أن “المغرب بسرعتين” هو مغرب تتحرك فيه الطبقة الثرية بسرعة فائقة نحو مزيد من التمركز في السلطة والمال، بينما تُترك الطبقات المتوسطة والفقيرة خلفها في طوابير الانتظار الطويلة أمام المستشفيات والمدارس والإدارات.
وما زاد الطين بلة، أن سلوك رئيس الحكومة ووزرائه يوحي بانفصال كامل عن نبض الشارع. فبدل التواصل مع المواطنين بلغة الاحترام والمسؤولية، يسود الصمت أو تأتي الردود متعجرفة، متعالية، تستخف بعقول الناس وتُشعرهم أن الحكومة تعتبر نفسها فوق الشعب وفوق المساءلة.
هذه الفجوة الخطيرة في التواصل ليست مجرد خطأ في الشكل، بل مؤشر على أزمة عميقة في العلاقة بين الدولة والمواطن، بين من يُفترض أن يخدم ومن يُفترض أن يُحاسب. لقد صارت اللغة الرسمية للحكومة تُغذي الإحباط وتُعمق الاحتقان الاجتماعي، بدل أن تُخففه.
وجاءت لحظة الوعي بمكامن الخلل الحقيقي، حين قال رئيس الحكومة عزيز أخنوش في البرلمان، في لحظة استعلاء نادرة، إنه “صديق ثلثي رجال الأعمال في المغرب”، وإنه “إذا تم استفزازه فلن يشتغل أحد في البلاد”.
كان جيل Z أول من التقط الرسالة: رئيس حكومة يرى نفسه فوق المحاسبة، يستمد قوته من التحالفات المالية مع رجال الأعمال، لا من الثقة الشعبية.
كانت تلك لحظة فاصلة، حيث أدرك الشباب أن الحكومة التي تُدار بمنطق الصفقات لا يمكن أن تحقق عدالة ولا كرامة للمواطن.
مأساة أكادير… حين يموت الضمير قبل المواطن
ثم جاءت فاجعة مستشفى أكادير لتفيض الكأس. هي ليست حادثة طبية واحدة كما حاول البعض تبريرها، بل سلسلة من الوفيات التي تكشف انهيار منظومة اليقظة والمسؤولية. ثمان نساء توفين واحدة تلو الأخرى، كل يوم ضحية جديدة في نفس المكان، بنفس التخصص، دون أن يدق أحد ناقوس الخطر، دون أن يتساءل أي مسؤول: ما الذي يحدث؟
كيف يمكن أن تمر وفاة امرأة كل يوم على مدى أسبوع كامل في قسم الولادة، دون أن تتحرك الإدارة، دون أن تُخبر الوزارة، دون أن يتوقف أحد ليفهم السبب؟
هذا ليس خطأً طبياً، بل إهمال ممنهج.
كارثة تكشف أن في المغرب اليوم مسؤولين سياسيين يغطّون في نوم عميق، حتى وهم يقفون على جثث المواطنات اللواتي دخلن المستشفى من أجل الولادة… من أجل الحياة.
وما زاد الفاجعة عمقاً، أن الوزير المعني لم يتحمل مسؤوليته السياسية كما تقتضي الأخلاق العامة، بل سارع إلى تحميلها لمدير وهمي لم يُعيَّن أصلاً، في مشهد يجسد غياب الشجاعة والمحاسبة.
كل ما سبق كان دافعا و محفزا ليقوم الشباب و يقول كفى!
ما يميز جيل Z في هذه المرحلة هو وعيه الجماعي ونكرانه للذات.
في شعاراته ومطالبه، لم يكن أنانياً ولا محدود الأفق. فلو كان كذلك، لركز فقط على التشغيل الذي يمسه بشكل مباشر، وعلى التعليم الذي يهم مستقبله الشخصي.
لكن جيل Z اختار طريقاً أسمى: دافع عن الصحة العمومية، وتضامن مع نساء أكادير، ورفع صوته من أجل كرامة كل مواطن ومواطنة، حتى أولئك الذين لا يعرفهم شخصياً.
وهذا هو المعنى الحقيقي للمواطنة: أن تشعر بوجع الآخر وكأنه وجعك.
جيل Z يثبت اليوم أن وطنيته ليست رد فعل عاطفي، بل وعي اجتماعي متجذر، يطالب بعدالة شاملة لا بامتيازات فردية.
جيل يرفع صوته ليقول: إن المغرب الذي يريده الملك والشعب معا ليس هو المغرب الذي تسيره الحكومة الحالية.
جيل يطالب ببلد واحد يسير بسرعة واحدة: سرعة العدالة، والكرامة، والمساواة.





