

لم يكن التقارب الزمني بين لقاءي القمة، المغربية الإسبانية من جهة والفرنسية الجزائرية من جهة ثانية، هو الشيء الوحيد الذي أثار الانتباه لدى الرأي العام الوطني والمغاربي والدولي، بل تعداه إلى مضامين الرسائل العلنية والمشفرة في الوقت ذاته، التي حملها اللقاء رفيع المستوى الذي ضم رئيسي الحكومتين المغربية والإسبانية وما رافقه من اهتمام شخصي لجلالة الملك.. ومن هذه الرسائل:
1ـ سارعت إسبانيا إلى حمل لواء الفضاء الأوروـ متوسطي، والتحدث باسمه بخصوص العلاقة اليوم وغدا…
ولعل حديث وزير الشؤون الخارجية والاتحاد الأوروبي والتعاون الإسباني، خوسيه مانويل ألباريس،كان جد ذكي وهو يصرح على هامش اللقاء الرفيع المستوى، «المملكة هي بلد أساسي لاستقرار الفضاء الأورو-متوسطي الذي نتشاطره بين أوروبا وإفريقيا من جهة، وأوروبا والدول المغاربية من جهة أخرى. ويضطلع المغرب بدور رئيسي في استقرار وتنمية هذه المنطقة بأكملها». وهو بذلك يتحدث باسم منطقة كانت فرنسا تعتبرها، منذ أيام نيكولا ساركوزي مجال تحرُّكِها الحيوي، باسم أوروبا، من خلال اتحاد المتوسط.
ولعل إسبانيا ترسل، بمعية المغرب المخاطب الجدي وذو المصداقية في المنطقة رسائل تكرس بها نفسها ناطقة باسم أوروبا في العلاقة مع المتوسط عبر المغرب. وفي ذلك تستعمل إسبانيا الرئاسة التي عادت إلى بيدرو سانشيز، بعد أن تسلمها من إمانويل ماكرون الذي لم ينجح في ما ينجح فيه رئيس الحكومة الإسبانية الآن. ومن منصب رئاسة الاتحاد الأوروبي، والعلاقة مع أهم شريك له ولها في القارة الافريقية وتجد مدريد سهولة في سحب البساط من باريس في الملف الأورو ـ متوسطي.
2ـ الرسالة الثانية هي المقاربة التي تقدمها العاصمتان المغربية والإيبيرية، من خلال فلسفة مبنية أساسا على تنسيق المصالح الاستراتيجية العميقة لدول المنطقة، عوض التنافس الطاحن وتغذية النزاعات. والجميع يدرك بأنها المقاربة الأفضل في منطقة أصبحت من أهم وأشد المناطق حساسية في كوكبنا، وذات انعكاسات على استقرار العالم..
وفي الوقت الذي يقدم فيه البلدان الشريكان مثالا علي التعاون من الطرفين بناء علي تطوير أسلوب الحوار السلمي، ثم سلة المصالح المشتركة والاتجاه نحو شراكة استراتيجية عميقة، يقدم الثنائي الفرنسي ـ الجزائري، عكس ذلك، عبر توتير العلاقة بين المغرب ومكونات الاتحاد الأوروبي من جهة، ثم من خلال الأفضلية التي تم منحها للتسليح والصناعات العسكرية من جهة ثانية.
3ـ الرسالة الثالثة، تتمثل في الأسلوب الذي اختارته إسبانيا في معالجة أزمتها مع المغرب. فقد مرت مدريد من استقبال زعيم الانفصاليين إلى المساندة الواضحة لمقترح الحكم الذاتي واعتباره القاعدة الأكثر جدية ومصداقية. وغيرت من حيادها المائل نحو الجزائر لاعتبارات منفعية إلى موقف مؤسس على مقاربة سياسية أمنية وسلمية وتنموية بكامل الوعي والشجاعة..
ونذكِّر بأن الجزائر التي ردت على إسبانيا بقطع العلاقات لم تقم بنفس الرد على ألمانيا، بالرغم من أن برلين أقرت بسمو المقترح المغربي حول الصحراء. بعد أن حاولت بدورها تعطيل الاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية وتغيير الموازين في المنطقة خدمة للجزائر وتونس…
3ـ الرسالة الثالثة، تمثلت في الرد القوي الذي قامت به النخبة الإسبانية وفي مقدمتها رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز، على الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون. وذلك عبر حوارات وتصريحات متقاطعة.
ونذكر أن الرئيس الفرنسي، وفي سياق الإعداد لزيارة رئيس الجزائر وقبله رئيس أركان جيشها سعيد شنقريحه، كان قد ربط الجزائر وفرنسا ربطا يفوق المتعارف عليه سياسيا في حوار أجراه معه الروائي الفرانكو ـ جزائري كمال داوود على صفحات أسبوعية «لوبوان»، وفيه قال إنه «لا يمكن للجزائر أن تعي نفسها بدون علاقتها مع فرنسا، والعكس صحيح».
وهو في ذلك رد على الروح الجديدة التي أطلقها نداء الملك الإسباني فيليبي السادس في السنة الماضية، عندما قال «الآن ينبغي على الأمتين السير معا من أجل الشروع في تجسيد هذه العلاقة بدءا من الآن».
ولا يمكن للمتتبع في الوقت ذاته أن يغفل ما قاله بيدرو سانشيز على هامش زيارته للمغرب، عندما شدد على «الطابع الاستراتيجي المستقبلي لعلاقة البلدين»، ومن عناصر الرد الإسباني ما صرح به لويس زاباطيرو بلغة واضحة اشتهر بها الرئيس السابق للحكومة الإسبانية والعقل المفكر للنخبة الاشتراكية في مدريد وأول ما دافع في 2008 عن الاعتراف بالحكم الذاتي من أعلى الحكومة، وقد كان واضحا أنه يتوجه إلى ماكرون عندما قال: «تاريخ المغرب لا يمكن فهمه بدون إسبانيا، كما لا يمكن فهم تاريخ إسبانيا دون المغرب». وهو يكاد يكون رد «الحافر على الحافر» كما تقول العرب القدامى..
4ـ الرسالة الرابعة تهم البعد الأوروبي المغربي، بعيدا عن المنقطة الأورومتوسطية جمعاء.
وفي هذا الباب يدو أن إسبانيا والمغرب، ردا على محاولة تلغيم العلاقة مع القارة عبر القرار البرلماني المشؤوم. ونحن نسلم بأن طبيعة النتائج، في علاقات كلا الثنائيين كانت مختلفة وكانت في القمة بين مدريد والرباط أحسن بكثير من ما أفرزته الزيارة الأولى للرئيس ماكرون إلى الجزائر ثم الزيارة الثانية لوزيرته الأولى.. فإن المثير للانتباه أن اللقاء الثنائي في الرباط، الذي جاء بعد أقل من أسبوعين من شطحات البرلمان الأوروبي، قد ركز علي موقع المغرب في استراتيجية الاتحاد الأوروبي وهكذا شدد بيدرو سانشيز على أنه «كلما تحسن التبادل بين المغرب وإسبانيا كلما كان ذلك جيدا لنا وللاتحاد الأوروبي»، في ربط لا انفصال له.. خاصة وأنه يدرك من موقعه كيفية وظروف استعمال البرلمان الأوروبي ضد المغرب كما حدث مع إسبانيا الأزمة في 2021 إبان استقبال إبراهيم غالي..
وكثيرون رأوا في مبادرة البرلمان الأوروبي يد فرنسا الخفية والتي سعت إلى إضعاف المغرب لفائدة الجزائر، وهي في سياق اللحظة الراهنة محاولة كذلك لإضعاف إسبانيا في دورها الجديد على رأس الاتحاد الأوروبي وكذلك في العلاقة المتميزة الجديدة التي تنشأ بينها وبين المغرب..
ففي الوقت الذي كان فيه النواب المنتسبون إلى حزب ماكرون يتغطرسون في تأليب زملائهم ضد المغرب وقف النواب الاشتراكيون ضد القرار، بل إن النائب الأوروبي الاشتراكي، ورئيس لجنة الحريات المدنية والعدالة، والقضايا الداخلية في الاتحاد الأوروبي خوان فيردناندو لوبيز أغيلار قد كشف «الشبهة التي تحوم حول القرار» وأعلن بكل حزم معارضته له و«أعلن دعمه القوي للمغرب والعلاقات معه على قاعدة الاحترام المتبادل»…
هناك العديد من الرسائل التي تشترك فيها فرنسا ماكرون مع إيطاليا اليمين المتطرف، على نفس المسافة من جزائر الغاز والبترول، ستكون لنا عودة إليها عندما يحين الوقت …قريبا!