اخبار المغربرأي في قضيةمستجدات

رمزية النقابي من وهج الذاكرة إلى رهانات السلم الاجتماعي: تأملات في عيد العمال وسبل تجديد الفعل النقابي

الخط :
إستمع للمقال

يحل فاتح ماي من كل سنة حاملا معه أصداء التاريخ العمالي الحافل بالعطاء والتضحيات، ومذكّرا بأولى الشرارات التي انطلقت من قلب شيكاغو سنة 1886 دفاعا عن يوم عمل كريم، لتتحول لاحقا إلى يوم عالمي يحتفي بالعمل والكرامة الإنسانية، ويكرس مكانة الطبقة العاملة في مسار التحول الديمقراطي والاجتماعي. إلا أن هذه الذكرى، ورغم رمزيتها التاريخية النضالية، لم تعد محصورة في التذكير بأزمنة التوتر والصراع، بل باتت لحظة تأمل جماعي في الإمكانيات المتاحة لبناء مستقبل أكثر عدلا وإنصافا، تشكل فيه النقابات ركيزة أساسية لضمان السلم الاجتماعي واستدامة العدالة.

لقد أضحى من الجلي أن دور النقابات في السياق المعاصر لم يعد رهينا بالمواجهة أو الصدام، بل أصبح مشروطاً بقدرتها على التحول إلى قوة اقتراحية فعالة، تنخرط بوعي ومسؤولية في صناعة القرار الاجتماعي والاقتصادي. فالنقابات، في صيغتها المتجددة، ليست مجرد ردة فعل ظرفية، بل شريك اجتماعي له وزنه، يُعبّر عن انشغالات الأجراء ويُقدم بدائل عملية توازن بين ضرورات النمو الاقتصادي ومتطلبات العدالة الاجتماعية. وفي عالم تتسارع فيه التحولات، ويزداد فيه تعقيد العلاقات المهنية، أصبحت الحاجة ماسة إلى حركة نقابية قادرة على تجاوز الأشكال التقليدية، عبر تجديد أدواتها النضالية، وتوسيع قنوات تواصلها مع القواعد، والانفتاح على رهانات المستقبل، بما فيها قضايا الرقمنة، والهشاشة، والعمل غير المهيكل. فالنقابات لم تعد فقط وسيطاً بين العمال وأرباب العمل، بل أصبحت فاعلاً محورياً في إرساء مناخ من الثقة والاستقرار، يقوم على احترام الحقوق، ويضمن الاستجابة الواقعية للمطالب المشروعة.

وتؤكد التجارب الدولية اليوم على دور النقابات في ترسيخ السلم الاجتماعي من خلال آليات متقدمة من التفاوض والحوار. ففي ألمانيا، أسهمت دينامية الاتفاقات الجماعية بين النقابات وأرباب العمل في استقرار سوق الشغل، وفي حماية آلاف الوظائف خلال الأزمات الكبرى. أما في السويد، فقد منحت النقابات طابعاً مرناً للتفاوض الجماعي، حافظ على مكتسبات العمال مع تعزيز تنافسية الاقتصاد. وفي جنوب إفريقيا، أُنشئ إطار ثلاثي دائم بين النقابات والحكومة والباطرونا، يتيح فحص السياسات قبل إقرارها، مما قلّص من حدة التوترات الاجتماعية. أما المغرب، فرغم تعثر بعض جولات الحوار، فقد شهد محطات مهمة كرّست الطابع التشاركي للنقابات، وأبرزت دورها في تحسين الدخل وظروف العمل من خلال اتفاقات موقعة مع الدولة.

وانطلاقاً من هذا السياق، تبدو رهانات النقابة في المغرب اليوم أكثر تعقيداً وتشابكاً، بالنظر إلى طبيعة التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه البلاد. فالمطلوب من النقابات المغربية ليس فقط الحفاظ على مكتسبات الماضي، بل التموقع كقوة اقتراحية مستقبلية تواكب التحولات الهيكلية الجارية، سواء في سوق الشغل أو في السياسات العمومية ذات البعد الاجتماعي. من بين هذه الرهانات، يبرز تجديد الخطاب النقابي بما يجعله أكثر قرباً من الأجيال الجديدة، وأكثر قدرة على مخاطبة فئات عمالية جديدة تعيش في ظل أنماط غير تقليدية من التشغيل، منها العمل المؤقت والموسمي والرقمي. كما يفرض اتساع رقعة الهشاشة إعادة بناء أولويات التدخل النقابي، بحيث تُمنح الملفات ذات الطابع الاجتماعي والاستعجالي، كالصحة والتغطية الاجتماعية والسكن اللائق، حيزاً أكبر ضمن أجندة الحوار مع الدولة والقطاع الخاص. ولا يقل عن هذا أهمية، الحاجة إلى توسيع الحضور النقابي في القطاعات التي ظلت خارج التغطية التمثيلية، ما يستدعي جرأة تنظيمية وهيكلية لتجاوز البيروقراطية وتفعيل آليات الوساطة داخل المقاولات والمرافق العمومية.

وتبقى المصداقية النقابية، اليوم أكثر من أي وقت مضى، شرطاً لازماً لاستعادة ثقة الأجراء في العمل النقابي، خصوصاً في ظل ما شهدته بعض التنظيمات من انقسامات وتوترات داخلية أثرت على فاعليتها التفاوضية. ولا يمكن بلوغ هذه المصداقية إلا عبر ربط الممارسة النضالية بالمصلحة العامة، وتغليب منطق الإنصات والتأطير على منطق الشعارات الفارغة والمزايدات الظرفية. كما أن تعزيز استقلالية القرار النقابي عن التجاذبات السياسية، وتحصينه من الانخراط في تحالفات ظرفية لا تخدم الطبقة العاملة، يمثل رهاناً أخلاقياً واستراتيجياً في آن، حتى لا تتحول النقابة إلى مجرد أداة للمساومة أو التموقع السياس وفقط، بل تتجاوز ذلك إلى اعتبارها كشريك فعلي للدولة في إطار تعاقد سليم بين الفاعل المؤسسي والفاعل النقابي.

إن السلم الاجتماعي، في عمقه، ليس لحظة صمت أو هدنة مشروطة، بل ثمرة لتعاقد نزيه وشراكة قائمة على الإنصات المتبادل والاعتراف بالأدوار. وفي هذا الإطار، يمكن للنقابات أن تلعب دوراً متميزاً في الوساطة الاجتماعية، وفي توجيه النقاش العمومي نحو قضايا الشغل الكريم والحماية الاجتماعية، عبر مقترحات جريئة ومبتكرة تتجاوز المنطق الفئوي إلى منطق المصلحة العامة. ومن ثم، فإن عيد العمال اليوم لم يعد فقط مناسبة لرفع الشعارات، بل دعوة لتجديد المشروع النقابي نفسه، انطلاقاً من إدراك عميق بأن الدفاع عن حقوق العمال لا يتعارض مع خدمة استقرار المؤسسات، بل يُعد شرطاً من شروطه. فكلما كانت النقابات قوية، منظمة، وذات مصداقية، كلما كان الحوار الاجتماعي مثمراً، وبيئة الشغل أكثر إنصافاً وتوازناً. وبهذا المعنى، فإن الحركات النقابية التي تتبنى الجرأة في الاقتراح، والوضوح في الموقف، والقدرة على التفاوض المسؤول، تساهم بشكل مباشر في إرساء أسس سلم اجتماعي حقيقي، لا يقوم على الإذعان، بل على شراكة عادلة تُعلي من شأن العمل، وتكرّس كرامة الأجراء، وتدفع عجلة التنمية المستدامة إلى الأمام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى