صحافة ولا بزنيس

في المغرب، كما في باقي أنحاء العالم، دخلت الصحافة مرحلة صعبة في مواجهة زحف المحتوى الرقمي العشوائي. كلنا نعرف أن ليس كل من يتحدث أمام كاميرا هاتفه أو ينشر مقاطع فيديو على يوتيوب صحفيًا، لكن المشكلة أن الجمهور لم يعد يميز بين الصحافة الحقيقية والتجارة الإعلامية الرخيصة.
الصحفي المهني يخوض معركة يومية مع البحث والتدقيق والتحليل. يقضي ساعات خلف الملفات، يواجه ضغوط العمل، يتحقق من المصادر.في المقابل، هناك من وجد في يوتيوب طريقًا مختصرًا للمال والشهرة. هؤلاء لا يتحرون الدقة، ولا يحترمون أخلاقيات المهنة، بل يبنون محتواهم على الإثارة والمغالطات. حميد المهداوي والريسوني وأمثالهم نموذج صارخ لهذا النوع من “الإعلام التجاري”، الذي يقوم على نشر الإشاعات، وركوب موجة الجدل، وبيع الأكاذيب لجمهور متعطش للدراما أكثر من الحقيقة.
ما يفعله هؤلاء لا يمت للصحافة بصلة. إنه بزنس رقمي قائم على استغلال العواطف، واستثمار الأزمات، وتحويل المواضيع الحساسة إلى سلعة تجارية. لا تحليل، لا تدقيق، فقط عناوين مستفزة، واتهامات مجانية، وسرديات مصممة لجلب أكبر عدد من المشاهدات. في ظل هذا الواقع، أصبحنا أمام إعلام جديد، لا يبحث عن الحقيقة بل عن “البوز”، لا يسعى إلى توعية الرأي العام بل إلى تضليله، ولا يحمل رسالة مهنية بل يسوق الوهم بأقنعة متعددة.
الخطير في الأمر أن هذا النوع من المحتوى بات يهدد الصحافة المهنية. حين يصبح الجدل أهم من الحقيقة، والإشاعة أسرع انتشارًا من الخبر الموثوق، والمشاهدات معيار النجاح بدل المصداقية، فإن الصحافة تدفع الثمن. المئات من الصحفيين المغاربة اليوم يعيشون أوضاعًا صعبة بسبب تراجع الإقبال على الصحافة الجادة. في المقابل، نرى “نجوم اليوتوب” يراكمون الأرباح من ترويج الأخبار الزائفة.
لكن، أين الجمهور من كل هذا؟ لا يمكن تحميل المسؤولية كاملة (للمتسولين الرقميين) تجار العواطف والأزمات وصناع الفتن، فالجمهور أيضًا شريك في انتشار هذا النمط من “البزنس الإعلامي”. المشاهدات، التعليقات، المشاركة على منصات التواصل، كلها عوامل تجعل أصحاب هذه القنوات يواصلون عملهم بلا رادع. ما دام هناك طلب على الإثارة، سيظل العرض موجودًا. الحل يبدأ من الوعي، من إدراك الفرق بين الصحافة والمحتوى التجاري، بين الخبر والتحريض، بين الإعلام والمسخ الرقمي.
ما نعيشه اليوم ليس مجرد أزمة صحافة، بل أزمة وعي مجتمعي. الصحافة الحقيقية ليست صراخًا أمام الكاميرا، ولا استجداءً للمشاهدات، ولا بيعًا للوهم تحت غطاء “الرأي الحر”. إنها مسؤولية، التزام، وتضحية. وكلما استمر الخلط بين الصحفي والتاجر، كلما خسرنا مساحة أخرى من الحقيقة لصالح الضجيج الرقمي.
فما يفعله تجار يوتيوب أمثال المهداوي والريسوني وغالي وآخرين، لم يعد مجرد تجاوزات إعلامية، بل تحول إلى تهديد مباشر للأمن القومي. بعض هؤلاء لا يكتفون بنشر الأكاذيب والإشاعات، بل يروجون لسرديات أعداء المغرب، يضخمون الأزمات، يشككون في المؤسسات، ويزرعون الفتنة بين المغاربة. تحت غطاء “حرية التعبير”، يخدمون أجندات تتقاطع مع مصالح جهات معادية، إما بدافع الجهل أو بهدف تحقيق أرباح شخصية. هذا الوضع يفرض على السلطة التدخل بحزم، ليس لتقييد الحريات، بل لحماية استقرار البلاد من هذا الانفلات الإعلامي الخطير. لا يمكن ترك الفضاء الرقمي مرتعًا للمحرضين والمتاجرين بالفوضى، فالأمن الإعلامي جزء لا يتجزأ من الأمن القومي، والتسامح مع هؤلاء يعني ترك الباب مفتوحًا أمام مزيد من العبث والتخريب.