

لم يكن أحد يتصور بأن النكتة التي أطلقها نزيل قصر المرادية حين ادعى بأن “الجزائر قوة ضاربة” ستخرج من مجال الهذيان لتصبح حقيقة ساطعة في وقت قياسي لا يتجاوز السنة. فنظام العسكر برهن، أواخر شهر دجنبر الماضي، بأنه فعلا “قوة ماحقة” ضد الصحافة المستقلة التي تزيغ عن البروباغندا الرسمية وتجاهر بمطالب الحراك الشعبي في العيش الكريم.
هكذا، لم يتردد النظام العسكري المتكلس في اعتقال الصحفي إحسان القاضي، المعروف بانتقاده للفساد الذي ينخر دواليب السلطة على أعلى المستويات في الجزائر، كما أن مقرات المؤسسات الاعلامية “radio M” و “Maghreb emergent” التي يديرها طالها التشميع، ليختفي من المشهد الصحفي الجزائري آخر رمز للممانعة في وجه الطغمة الحاكمة بالشعارات الجوفاء.
اللافت للانتباه في هذه القضية، التي تلطخ سمعة بلد “المليون جنرال” أو”المليون شهيد صحفي”، هو الذريعة القانونية التي اتخذها النظام لإخراس إحسان القاضي بعد سنين طويلة لم يحِد فيها عن نهجه الصحفي اللاذع! فتهمة تلقي “تمويلات خارجية” ليست، حسب جل المتتبعين للشأن الجزائري، إلا تخريجة قانونية “ضاربة” لتصفية الحسابات مع الاصوات المعبرة عن نبض الشارع الجزائري. لكن ما لا يخفى أيضا، هو أن تلك الفتوى لا يمكن أن تصدر إلا عن الأجهزة العسكرية والاستخباراتية المتمرسة منذ زمن بعيد في تمويل الصحافة، سواء داخل الجزائر أو خارجها، لتنفيذ أجنداتها. فليس افضل من وصفة تخرج من مطبخ يسوقها منذ عقود.
إعمال السكاكين الطويلة في الجسد الصحفي في هذه الظرفية بالذات (فصل الشتاء) ليس اعتباطيا. فانشغال الرأي العام الدولي بالازمة الأوكرانية وقلق الاسواق الدولية بخصوص امدادات الغاز والبترول، يعطيان لنظام العسكر مجالا لانتهاز الفرصة على اعتبار أن العديد من الدول، خاصة الاوروبية، تفضل دفء الغاز والبترول على الدفاع عن حرية الراي والتعبير. فصمت هذه البلدان، في حالة الصحفي إحسان القاضي، يفضح ازدواجية المعايير التي تتشدق بها ويبرهن على أن رياح المصالح الجيوسياسية و الاقتصادية تطغى على المبادىء الاخلاقية.
لكل من قد يساوره شك بهذا الخصوص، سنرى هل ستستطيع اوروبا أن تدين تصرف الجزائر الأرعن تجاه إحسان القاضي و هل تجرؤ فرنسا، مثلا، على توجيه اللوم السياسي أو تشغيل أبواقها ومنابرها الاعلامية ضد قصر المرادية؟