الأخبارركن الميداوي

متى يفهم الإعلام الاسترزاقي أن الكتابة أداة سامية لنقل الأفكار ومرآة عاكسة لأخلاق ومبادئ أصحابها

الخط :
إستمع للمقال

من أروع ما قرأت هذا الأسبوع حول الصدمات التي أحدثها صعود اليمين المتطرف في الانتخابات البرلمانية والرئاسية في فرنسا وأروبا بكاملها، والتخوفات التي رافقتها بشأن مصير الديمقراطية، في ظل النفوذ المتنامي للتيارات الشعبوية في فرنسا، كتاب “الوهم الشعبوي” الذي أصدره الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي، بييرأندري تاغييف، في أواخر ربيع 2002، أي بعد أسابيع من الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي أزاح فيها اليميني المتطرف، جان ماري لوبين، الاشتراكي ليونيل جوسبان، ليخوض الدور النهائي في الانتخابات الرئاسية مع الرئيس جاك شيراك.

ويقدم تاغييف الذي يعمل مديرا للمركز الفرنسي للأبحاث السوسيولوجة، نظرة تحليلية دقيقة لظاهرة الشعبوية السياسية والإعلامية التي تكبر وتصغر وفق ما يتولد عن الأوضاع الاجتماعية من تيارات مختلفة وربما متصارعة.
وأهمية الكتاب لا تكمن في ما يعرضه صاحبه من حالات “شعبوية” تفشت في الثمانينات والتسعينات، وانمحت بالمرة من الفضاء السياسي الأوربي المهيكل وفق انقسامات إيديولوجية ثنائية القطبية (يسارـ يمين، اشتراكيون ـ ليبراليون…)، ولكن في كون الظاهرة تسربت بشكل مدمّر للجسد السياسي المغربي ولجسمه الإعلامي على الخصوص، حيث بعض الإعلاميين ممن يعتزون بشعبويتهم ويتفاخرون بها، يعتقدون أن المواطن بحاجة دائمة إلى أقراص ديماغوجية لتنشيط جانبه العاطفي والمخيالي، فيعمدون إلى تكرار نفس الخطاب الشعبوي الاستفزازي القائم على التجريم والتخوين، وقد أعطوا لأنفسهم كامل الصلاحيات في محاسبة الجميع وهم فوق الناس جميعا.
فمع بداية الألفية الجديدة، ظهرت بالمغرب أقلام مدفوعة الأجر المسبق، مهمتها تلميع وتسويق بعض الأشخاص البعيدين كل البعد عن النزاهة والأمانة والشرف، على حساب أشخاص آخرين مشكوك في وطنيتهم. وتلميع تنظيمات سياسية على حساب أحزاب أخرى، واللائحة تطول…

هؤلاء الإعلاميون المسترزقون يشرحون للمواطن الوقائع والأحداث لا من زاوية المعالجة الهادئة القائمة على التوعية والتنوير، ولكن بنيّة شحنه وتأجيج مشاعره. ومثل هؤلاء ليست لديهم قناعة فكرية بعينها، أو منظومة مبادئ يدافعون عنها، فهم ينقلبون ويتقلبون بسرعة قياسية من الضد إلى الضد، كلما اقتضت مصلحتهم ذلك. فالشرفاء المخلصون عندهم، هم من يخلصون في الأغلفة والعلاوات السمينة، وحتى إذا توقفوا عن أداء “الواجب اللازم”، انقلبوا عليهم بما يعزز المقولة الإعلامية الفرنسية “الْحس، ازْدح ثم انهش” ‘’Lécher, Lâcher, Lyncher’’.

والملفت في المشهد الإعلامي المأجور، أنه أصبح يأخذ من فرط تكراره في بعض الأعمدة، وفي بعض منصات التواصل، طابع التسميم لمجتمع يعتقد هؤلاء أنه عديم الإدراك، فيحاولون صياغة وعيه على مزاجهم، ووفق أهوائهم بما يكرس التضليل، ويغذي الكراهية وانعدام الثقة بين أبناء الوطن الواحد. والملفت أيضا في ظاهرة المسترزقين الإعلاميين كونهم، كما يتقنون بشكل كبير فن المُلاسنة والشتائم، فإن لديهم خبرة فريدة في اختلاق المبررات والمسوغات المقبولة، لاقتحام قلوب الناس وتحويلها إلى الهدف المنشود.

والإعلام الاسترزاقي المأجور الذي يرفع رايته الصفراء اليوم جيل من الانتهازيين المتحاملين على رموز البلاد خدمة لأجندات خارجية وحتى داخلية مشبوهة، وجنَوا من وراء ذلك أموالا طائلة، لن يعمّر أكثر مما عمّرت الصحافة الصفراء الرخيصة قبل بضعة عقود. حُجتنا في ذلك أن الكتابة في أوساطهم أصبحت كتابة ساقطة ومبتذلة، غابت عنها الحقيقة، وضاعت منها الأمانة.
آفة الإعلام الاسترزاقي المُتعفن، أنه بدلا من أن يقدم للقارئ سلعة نظيفة تتسم بالحياد والاستقلالية، وتلامس الواقع المغربي من زاوية التعامل الذكي النافذ في تفاصيله، اختار الارتماء في أحضان التسويق والمتاجرة، والذهاب إلى حد التشكيك والنقد اللاذع للرموز الوطنية التي أرّخت بمواقفها السياسية، وحتى الإنسانية، لفصول النضال الوطني، وسنوات الجمر التي اكتوى بلهيبها العديد من رجالات الاستقلال والحركة الاشتراكية، فيما لفيف الصحافة مدفوعة الثمن، غائب بالمرة عن الساحة، يترقب بشغف فترة الانفتاح الديمقراطي ليتحرر بقدرة قادر، من عقدة اللسان التي كانت تصيبه عندما يُذكر اسم المهدي بن بركة، الفقيه البصري، وأسماء بعض أقطاب المعارضة.
سؤالي بل أسئلتي لهؤلاء، كيف أطلقوا العنان لقلمهم اليوم بعد أن كانوا مصابين في العهد البصريوي بالوهن والعجز الشديدين؟ وكيف استغلوا وبشكل بشع التحولات التي يعرفها المغرب، والتي أنتجت سياقا جديدا للتعامل، فيه من الحرية والانفتاح الإعلامي، ما جعلهم يسارعون ويتسارعون في نهش زيد الذي لا يدفع، على حساب عمرو الذي اشترى همّتهم لتمرير أجنداته وتحقيق مآربه من خلالهم.

لهم جميعا أقول وبدون أدنى تحامل أو تهجم، إن الكتابة مهنة إنسانية، قادرة على تحريك وخلخلة القضايا الراكدة في زوايا المجتمع، وإظهار جوانبها المظلمة مع السعي إلى تقديم أفضل البدائل والحلول لمعالجتها، إذا توافرت شروط الأمانة، ومعاني الحياد والصدق والموضوعية. فالممارسات التي يحاولون بأقلامهم أو قنواتهم، إسقاط شخوصهم عليها، من خلال التهجم على كل من ليس له عندهم به حاجة، من جهة، وبث الفوضى وتزييف الواقع بغرض التميز والتمكن والتغول، من جهة أخرى، أضحت اليوم السمة الغالبة في الكتابة الاسترزاقية لفئة الذّباب الإعلامي الراهن.
ولنُسلّم جميعا بحقيقة أن من يمتلك قلما موضوعيا صادقا، وليس قلما متسوّلا منحازا، أو سليطا متحاملا، فإنه يمتلك ضميرا نقيا، حيث الكتابة أداة سامية تقودنا إلى قيم العدالة والحرية، فضلا عن كونها أداة نبيلة لنقل الأفكار وتصحيح الخلل، وفوق كل ذلك هي مرآة عاكسة لأخلاق ومبادئ أصحابها.

ومن هذا الموقع، أذكّر أصحاب الأقلام الصفراء، وقنوات التواصل الاسترزاقية الذين بنوا ثروة هائلة من خلال بيع الوهم والكذب للمواطنين، بمسئولياتهم الفكرية والأخلاقية، تجاه مجتمعاتهم، حيث التاريخ لن يرحمهم يوما لأنهم أساءوا لأوطانهم إساءات بلغت الحد الأقسى في الظلم، خدمة لأجندات خارجية وداخلية مشبوهة. فهل وصل التذكير؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى