الأخبارركن الميداويمستجدات

مغاربة فرنسا… من حالات التقوقع والانغلاق إلى كتلة وازنة في الاقتصاد والسياسة والثقافة

الخط :
إستمع للمقال

وأنت في جولة استرخائية بداخل الضواحي والأحياء الباريسية، ينتابك الإحساس بأنك في قلب الأحياء المغربية بخصوصياتها وهويتها، لا في عقر الوطن الفرنسي..أحياء مغربية بالكامل، بلغتها وطقوسها وحركيتها التجارية..مطاعم حلال، مجزرات إسلامية، دكاكين أمازيغية.. جلابيب، عباءات.. رزات وطرابيش..

تأصل يحمل في ثناياه مجموعة من التناقضات والاختلالات في التنشئة والقناعة والتوجه لدى ثلاث فئات تلتقي في النشأة والانتماء المغربين، وتختلف في التجانس وفهم المحيط، وأيضا في أسلوب تدبير حياة الغربة: فئة الآباء ويعيشون في معظمهم داخل غيتوهات سكنية تنعدم فيها ظروف الراحة، ويصعب في ظلها التخلص من حالات التقوقع والانحصار التي يفرضونها على أنفسهم. ولفرط الشحنة الدينية المغلوطة التي يتلقونها من بعض الفقهاء المتزمتين، يتزايد انسحابهم صوب بيئتهم المنغلقة، ويرون في كل انتقاد هجوما عليهم. وقد نتج عن اختلاف أنماط الحياة وتباعد الثقافات مع البلد المضيف، حالات من الغموض وسوء الفهم، انتقل معها الإحساس بالغربة من حالة انفعالية عابرة إلى حدث دائم ومستقر أفرز هو الأخر ردود أفعال هوياتية تصل أحيانا إلى حد التصادم.

معظم هؤلاء يعيشون قطيعة مع البلد المضيف على أكثر من صعيد، وهي قطيعة ناتجة في معظم الأحيان عن النظرة الدونية والكليشيهات السلبية التي يرسمها المجتمع المضيف عن هؤلاء الآباء الغرباء مرتين: مرة في أوطانهم لأنهم لا يملكون مفاتيح التأقلم مع أبناء الوطن بسبب النظرة النمطية السلبية هي الأخرى تجاههم، ومرة ثانية في ديار الغربة التي يصعب عليهم فيها اختراق المجتمعات المضيفة والتفاعل معها.

ومن بواعث سخط هذه الفئة على أوضاعها الاجتماعية والعائلية، سياسة فرنسا بحكوماتها المتعاقبة التي تضع أبناء إفريقيا في خانة “البشر الدونيين”، حيث الترحيلات المجحفة تتكاثر سنة بعد سنة، دون اعتبار لصوت الجمعيات الحقوقية والمنظمات الإنسانية، التي ترى في تهجير الأفارقة والتنكيل بهم، اغتصاب للكرامة البشرية وتدنيس للشرف، إلى جانب كونه تنكُّر صريح من طرف هذا البلد الذي قدم من أجله الأفارقة أرواحهم ليعيش حرا مستقلا.

الفئة الثانية وتتكون من شباب الهجرة ممن ازدادوا وترعرعوا في ديار الغربة. فثمة شريحة واسعة من هؤلاء لا يعيرون اهتماما لمرجعياتهم الدينية والثقافية، ولا نفوذ أو تأثير لذويهم عليهم، فتراهم تائهين في سلوكهم وتصرفاتهم حيث لحم الخنزير في ثقافتهم لحم مسموح، بل وحتى أفضل من كل اللحوم والدواجن. والأفلام الإباحية جزء من المتعة الغريزية، والدعارة وبيع الجسد اختيار لا شأن للآخر فيه، والاحتشام والوقار ضرب من الممارسات الماضوية. وتمكنت هذه الفئة من الانغماس والذوبان في المجتمعات المضيفة، إلى حد أنها تتفادى أبناء جلدتها “المتزمتين الأغبياء”.

وثمة فئة ثالثة ومعظمها من الوافدين من طلبة وأطر وكفاءات شابة ممن نجحوا في إثبات ذواتهم اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، وأصبحوا اليوم يشكلون خزانا فكريا واقتصاديا ينهل منه المجتمع المضيف، ضمن المعادلة التي أقاموها بنجاح بين الانخراط في قيم البلد المضيف، وتحصين الهوية الوطنية. وقد هجرت هذه الفئة إلى فرنسا بعد أن تعذرت أسباب البقاء في بلدها الأصلي الذي عجز عن استيعابها. وهي تتمزق اليوم بين أحلام العودة إلى الوطن والخوف من أن يتنكر لها بعض أهل البلد المتشدقين بالوطنية الزائفة.

هذه الفئة ومعها قلة من أبناء الجيل الثاني والثالث، نجحت في اختراق المجال السياسي والثقافي والرياضي، وتمكنت من بناء جسور تواصلية مع أبناء البلد المضيف، كمدخل للتعريف بالثقافة المغربية ومقوماتها. وانتقلت بفعل ذلك من فئة مهمشة ومهملة في المجتمع الفرنسي، إلى كتلة فاعلة ومؤثرة في السياسة أيضا. وبفضل الاختراقات التي حققتها فيمجالات الإدارة والأعمال والبحث العلمي والطب، والتعليم الجامعي، أصبح لها حضور قوي في وسائل الإعلام إلى درجة المشاركة الفعالة على شاشات الفضائيات وفي البرامج الإخبارية والسياسية والثقافية.

ومع تمكُّن هذه الفئة من الاندماج في نسيج المجتمع الفرنسي، بفضل التفوق في الدراسة والتميز في العمل، لم تعد مواقف الكثير من الفرنسيين كما كانت، مقرونة بالخوف غير المبرر من العربي المسلم، بل تحولت إلىنوع من الاطمئنان، في نسيج متنوع التقاليد والأديان.

ومع هذا التغير المتزامن مع فترة انطوت فيه صفحة أجيال سياسية شاخت وأحيلت على التقاعد الاجتماعي والسياسي، انقطع الأمل لدى غالبية أبناء الجيلين الثاني والثالث في العودة إلى البلد الأم الذي لم يعد بالنسبة لمعظمهم أكثر من بلد إجازة قصيرة للقاء أعضاء الأسرة والجلوس إلى الخالة والعمّة والجدّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى