من لفراقشية لجبروت لأيت بوغماز لأكادير.. حين يفقد الشعب الثقة… لأن الحكومة لم تتحرك لربط المسؤولية بالمحاسبة

لم يعد الغضب الشعبي مجرّد ردّ فعل عابر، بل أصبح أزمة ثقة حقيقية بين المواطن ومؤسساته. جيل اليوم، الذي يتابع كل شيء بالصوت والصورة، يرى الفساد يُكشف يومًا بعد يوم، دون أن تتحرّك آلة المحاسبة، ودون أن تُصدر الحكومة أيّ إشارة جدّية إلى أن “العهد قد تغيّر”.
لقد صار هذا الجيل يعتقد أن الفساد في المغرب ليس مجرد انحرافات معزولة، بل نظام قائم بذاته، لأن أحدًا من السياسيين لم يُحاسَب. حين تُفتح الملفات الكبرى ثم تُغلق دون نتائج، وحين يُكافأ الفشل بدل معاقبته، تصبح العدالة مجرّد ديكور.
إن مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، الذي نصّ عليه دستور 2011، لم يكن ترفًا لغويًا. بل كان تأسيسًا لعقد اجتماعي جديد، يربط ممارسة السلطة بتحمل التبعات. كما قال الفيلسوف الأميركي جون لوك: «الحكومة بلا محاسبة ليست سوى شكل آخر من الاستبداد».
وفي الأنظمة الديمقراطية الحديثة، تُترجم هذه القاعدة من خلال آليات الضبط والتوازن (checks and balances) التي تضمن ألا تبقى الاختلالات بدون تصحيح. في الولايات المتحدة، يمكن للكونغرس استدعاء أي وزير ومساءلته علنًا. وفي بريطانيا، يستقيل الوزير بمجرد الشك في تضارب المصالح. أما في السويد، فالإعلام والرأي العام يملكان من القوة ما يجعل الخطأ السياسي نهاية فورية للمسار الوزاري.
الفرق ليس في النصوص، بل في الإرادة السياسية التي تجعل من المحاسبة سلوكًا مؤسساتيًا لا شعارًا انتخابيًا.
اليوم، على المغرب أن يُصحّح الظلم بإجراءات حازمة. فلا معنى لدولة الحق والقانون ما دامت المسؤولية بلا محاسبة، وما دام المواطن يُحاسَب بينما السياسي يُستثنى.
قضية لفراقشية ووثائق “جبروت” مثالان صارخان: ملفات تهزّ الرأي العام وتثير تساؤلات حول تداخل المصالح والصفقات المشبوهة، لكن الحكومة، وعلى رأسها عزيز أخنوش، اختارت الصمت. الأخطر أن وزيرين من داخلها أكّدا أن تلك الوثائق حقيقية، ما يعني ضمنيًا أن باقي الوثائق قد تكون كذلك، وأن التجاهل ليس حيادًا بل تواطؤًا.
ولأن رئيس الحكومة لم يُحرّك ساكنًا، رغم خطورة ما كُشف، شعر الشباب أن المؤسسة الوحيدة القادرة على استعادة الثقة هي المؤسسة الملكية. فجيل Z، رغم تمرّده وغضبه، لم يقطع مع الدولة، بل استنجد بالملك باعتباره الضامن الأول للعدل والمساءلة، وجدد ثقته في القيادة الملكية باعتبارها آخر حصن في وجه التواطؤ واللامبالاة.
لقد فهم هذا الجيل أن الدولة لا تُختزل في حكومة عابرة، بل في استمرارية السيادة والرمزية الملكية التي تربط الوطن بقيم الإنصاف والعدل.
إن الشباب الذي خرج إلى الشارع لم يخرج ضد الدولة، بل من أجلها. خرج ليقول إن المغرب لا يمكن أن يتقدّم بوجهين: واحد يطالب بالشفافية، وآخر يغضّ الطرف عن الفساد.
الرسالة واضحة: إذا لم تُعطَ الإشارة بأن لا أحد فوق القانون، فإن الثقة ستنهار نهائيًا. أما إذا تحرّكت العدالة بجرأة، وفتحت تحقيقات شفافة في كل الملفات التي فجّرت الغضب الشعبي، فسيكون ذلك بداية عهد جديد عنوانه: لا مسؤولية بلا محاسبة، ولا سلطة بلا رقابة.





