ركن الميداويغير مصنف

نحن والغربيون.. واقع أليم، مجحف ومدمّر

الخط :
إستمع للمقال

ماذا لو اتفق صناع الإبداع بلغة الضاد، ومعهم محترفو الإعلام والتواصل في الوطن العربي برمّته، على أن يكتبوا في أغلفة مؤلفاتهم، وعلى صدر صفحات جرائدهم ومجلاتهم: “كفانا بكاء على أمجاد الماضي”، علنا نتوقف بذلك، عن توظيف خطابات عقيمة جعلتنا طوال عقود، قابعين في متاهات الشعارات الفارغة، المتفاخرة بالإنجازات العلمية والفكرية وحتى الحربية لأجدادنا، عاجزين عن تجديد أنفسنا وآليات تفكيرنا، بما يُمكننا من أن نجعل من تلك الإنجازات سندا لإنجازات وعطاءات أعظم.

فالمحتويات والنماذج التوعوية لمفكرينا وإعلاميينا على الخصوص، لا تتجاوب مع المتغيرات الراهنة وتحدياتها المستقبلية، بحكم ارتباط معظمها بالبكاء على الأطلال، معبرة بذلك عن الخواء والعجز الذي بات من سمات أفكارنا الراهنة، المتسمة بالانكفاء وبالتخلف عن مواكبة التطورات التكنولوجية المتسارعة.

فجميع انتصاراتنا على الآخر، سواء كانت انتصارات عسكرية كما هو الحال مع الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، أو انتصارات علمية ومعرفية مختلفة، هي انتصارات خطابية لا أكثر. مجرد صهيل عقيم، يعتمد “البقبقات” الكلامية التي بها يصنفنا الغرب ب”الظاهرة الصوتية”.

فمن العار الفكري والإنساني والإعلامي، أن نظل قابعين وراء مبررات ماضوية، نواجه بها العولمة الثقافية التي تسعى اليوم، من خلال الاختراق الثقافي المتغوّل، التأسيس لمجتمع معرفة جديد، ركيزته ثقافة الأقوى. وقد اجتازت أشواطا في تعميم أنماطها الثقافية، وبلورة قيم جديدة، قد تتجذر بعد فترة ليست بالبعيدة في مجتمعاتنا العربية.
ولا حاجة للتذكير بأن 15 في المائة من سكان العالم يوفّرون جميع الابتكارات التكنولوجية الحديثة، و50 في المائة منهم قادرون على استيعاب هذه التكنولوجيا، بينما البقية (35 في المائة) يعيشون في وضعية انفصال وعزلة تامين عن هذه الابتكارات. وهذا الواقع يعني أن الثقافة الغربية آخذة في التغلغل في مجتمعاتنا العربية التي تفتقر إلى القدرة على التحصين الثقافي، مما يجعلها سهلة السقوط في أحضان ثقافة الأقوى.

ويتجلى هذا الوضع القاتم، فيما يعرفه المنتوج الثقافي العربي (سينما، تلفزيون، مسرح، صحافة رواية، شعر، وغيرها من الأدوات التواصلية الأخرى…)، من منافسة ظالمة تغلق في وجهه كل فرص التفاعل مع الثقافات العالمية. فالمنتوج الثقافي العربي على اختلاف أشكاله، لم تتجاوز نسبة حضوره في رفوف الخزائن والمكتبات الغربية 0،5 % ضمن الإنتاجات العالمية، بينما لا يمثل المنتوج الإعلامي من جرائد وأسبوعيات ومجلات متخصصة، أزيد من واحد في المئة بدولة مثل فرنسا أو إسبانيا تجمعنا بهما روابط ثقافية متعددة. وحتى في بلدنا، لا يمثل المنتوج الأدبي والإعلامي المكتوب باللغة العربية، في مكتباتنا وأكشاكنا المغربية، أزيد من 20 في المئة، وما تبقى هي إصدارات أجنبية أو مكتوبة بلغة أجنبية.
وجه آخر من تجليات الفجوة العميقة بيننا وبين الغربيين، أُسوغه بناء على تجربة طويلة لي بباريس، تزيد عن ربع قرن وقفت فيها، بل تطرقت ولا أزال، كإعلامي مارس بالعربية والفرنسية، بالنقد اللاذع للكثير من القرارات التمييزية، والخطابات الإعلامية والسياسية، التي تروّج لها بعض النخب الفرنسية من ذات اليمين واليسار على السواء، والتي تضع حدودا عنصرية فاصلة بين نمطين من الآدميين: نحن المنحطون، ولا قيمة لوجودنا، وهم المتفوقون، ويعود لهم الفضل في ولادة التاريخ وقيام الحضارة..

قد يكون استصغارنا أقل ضراوة في دولة مثل بريطانيا التي تتعامل مع عينة من العرب، مختلفة عن تلك المتواجدة بفرنسا، حيث القادمون إليها هم في معظمهم من دول الخليج الغنية، وليسوا بحاجة لوظائف أو شغل بالبلد المضيف. ومع ذلك، فإن الصور المتداولة عن العرب في الإعلام البريطاني، لا تخرج عن البعير والصحراء والنعل، فيما الصور التي يختزلها الإنسان المغربي في المخزون الاجتماعي الفرنسي، هي أشد قسوة وإذلالا.. صور تشبه البطاقة البريدية التي يرسلها السائح إلى أهله وأصدقائه في البلد.. صور تمثل مروضي الثعابين، وقارئات الورق في جامع الفنا بمراكش، والمنقّبات في دروب فاس الضيقة، والأطفال المتسولون في دروب وشوارع طنجة ومكناس والدار البيضاء.. وبقدر ما هي قبيحة ومُهينة، فإن الأثر المدمر لهذه الصور، يكمن في كونها تختزل الواقع المغربي شديد التنوع، في بضعة فلاشات بعيدة عن نشأتنا الاجتماعية والثقافية.

والأشيَن من ذلك، صور التلفزيون والسينما التي هي أكثر خدعة ودسّا.. فهنا التمويه خطير، وأسلوب التأثير وتوجيه الرأي، خفي ومُدمّر. فالتلفزيون يحلو له أن يركز في بضع لقطات، على كل ما يتعلق بسوء الفهم التاريخي القائم بين الغرب والشرق، بين الإسلام والعالم المسيحي، بين العرب والغربيين، فتصبح الصورة التمثّلية كلها ثنائيات متعارضة، تنظر إلى العرب على أنهم نقيض الغرب… فنحن التفكير بالعواطف، وهم الغربلة بالعقل، ونحن العنف، وهم التسامح، ونحن الماضوية، وهم الحداثة، ونحن نحْر الخرفان، وهم الرفق بالحيوان، ونحن أربع زوجات وهم الزوجة الواحدة، ونحن الاستبداد، وهم الديمقراطية…
يدعوك المشهد المبني على مثل هذه النظرة الدونية الحاقدة، إلى وضع سؤال كبير حول واقعنا الثقافي: أين موقعنا في مسار التحصيل والمعرفة والعطاء، نحن سلالة ابن زيدون الذي كان يقرأ ماشيا، والجاحظ الذي مات بين كتبه؟ ولماذا تخاصمنا بهذه البساطة مع منظومة العلم والمعرفة التي كنا أول من أسس لها، وأتحنا اليوم للعولمة الثقافية فرصة التغلغل بسهولة في مجتمعاتنا؟ سؤال كبير لأنه يطرح إشكالات متداخلة ومتباينة ذات صلة بالتخلف والفقر والجهل والاستعمار، وبتوظيف كل مهاراتنا في التفاخر بالماضي، دون محاولة لإعادة بنائه وتطويره.
وهل يعلم أصحاب العيون الدامعة على الماضي، أن ما تنتجه دولة صغيرة مثل جارتنا إسبانيا، من كتب في السنة (أزيد من مئة ألف كتاب)، يفوق كل ما أنتجه العرب مجتمعين، من المُعلّقات إلى اليوم؟ هل يعلم هؤلاء أننا نعيش اليوم من كل هذا، حالة نكوص أو نفور من الكتاب الذي به تقاس درجة الحضارة لدى الأمم، حيث أمة لا تقرأ لا يمكن أن تكون إلا ساذجة التفكير، معطّلةً عن الإبداع وعاجزة عن التغيير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى