اخبار المغربرأي في قضيةمستجدات

القيمة الاعتبارية للصحافة

الخط :
إستمع للمقال

ارتبط تاريخ الصحافة في العالم، بعدة عوامل، كان أولها اختراع المطبعة، غير أن الثورة الصناعية وتطور الرأسمالية، كان لهما الدور الحاسم في ازدهار هذه المهنة، حيث كان التجار والرأسماليون في حاجة إلى المعطيات عن الأسواق والمنتجات، بالإضافة إلى المعلومات السياسية في عالم جديد أخذ يتشكل، وفي إطاره انبثقت الديمقراطية وحرية التعبير، وغيرها من مبادئ حقوق الإنسان، وفي هذا العالم الجديد ظهرت الصحافة كمهنة مستقلة بذاتها، وصفها عالم الاجتماع ماكس فيبر بأنها صناعة رأسمالية كبيرة.

ففي القرن التاسع عشر، على الخصوص، في أمريكا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا، وكذلك اليابان، التي انطلقت فيها الصحافة مع ثورة الميجي، التي كانت بداية النهضة في هذا البلد، تشكلت مؤسسات صحافية أخذت تكبر تدريجيا، باستثمارات من رجال الأعمال، الذين راهنوا فيها على تحقيق أرباح، وهو ما حصل، حيث ازدهرت المبيعات والإعلانات. لذلك يمكن القول، إن الصحافة، لم تتطور إلا عندما اتخذت صفة صناعة، بكل ما تحمل الكلمة من معنى، على مستوى الرسملة والتخطيط والإنتاج والتسويق… ورغم المنافسة القوية من الراديو والتلفزة، إلا أن الصحافة المكتوبة ظلت صامدة.

نعيش حاليا الثورة الرقمية، التي أثرت بشكل جلي على ما يسمى بالصحافة التقليدية، إلى درجة أن هناك تساؤلات مشروعة حول مستقبلها، في ظل التطورات المتسارعة الناتجة عن تكنولوجيات الثورة الرقمية، ودخول فاعلين جدد في إنتاج الأخبار والصور والتعليقات… غير أن هناك ملاحظة مهمة، في نظرنا، ينبغي أن تحظى بالاهتمام، ففي البلدان التي تشهد تطور الثورة الرقمية، أكثر من غيرها، حافظت الصحافة التقليدية على وضعها، وتمكنت من استيعاب الصدمة الرقمية، بشكل أفضل من البلدان التي مازالت الثورة الرقمية فيها متخلفة أو في بداياتها.

ومن بين الأمثلة التي يمكن أن نقدمها لمناقشة هذه الملاحظة، ما يحصل في اليابان، الذي يعتبر رائدا في المجال التكنولوجي. ففي كتاب تحت عنوان “آخر إمبراطورية للصحافة”، صدر سنة 2022، يحلل سيزار كاستيلفي، هذا الوضع، انطلاقا من بحث سوسيولوجي حول الصحافة اليابانية، يعتبر فيه أنه رغم أن الصحف كوسيلة للوصول إلى المعلومات قد تجاوزها منذ فترة طويلة التلفزيون ثم الإنترنت مؤخرا، إلا أن صحفيي الصحف اليومية يحتلون مكانة خاصة، فهم لا يزالون المنتجين الرئيسيين للمعلومات المنشورة، بما في ذلك على الإنترنت، ويستمرون في قيادة الأجندة الإعلامية، ويحظون بشبه احتكار لإنتاج المعلومات العامة والسياسية، كما أن مؤسسات الصحف اليومية تمثل الخزان الرئيسي للتوظيف.

ومفتاح اللغز، حسب كاستيلفي، يكمن في الوظيفة المركزية التي تلعبها المؤسسة الصحافية في جميع جوانب هذا النشاط المهني، ففي اليابان، أن تكون صحافيا يعني أن تكون مستخدما في مؤسسة صحافية، وهذه الوضعية هي ما تجعل ممارسة العمل ممكنة، إذ أن الولوج إلى المهنة يبدأ بمجرد أن يتم توظيف الشخص من قبل مؤسسة صحافية، فهي التي تتولى بعد ذلك التدريب المهني من خلال نظام تكوين داخلي صارم. وبعد فترة التدريب يبعث الصحافي المتدرب إلى فرع جهوي للمؤسسة، حيث يقضي هناك من خمس إلى ست سنوات، قبل أن يوظف في المركز، إذا أثبت كفاءته. لكن الانتماء للمؤسسة لا يتوقف عند هذا الحد، فالارتباط الوظيفي هو أيضا الشرط الرئيسي للوصول إلى مصادر المعلومات التي تتيح للصحافيين القيام بعملهم اليومي، من خلال أندية الصحافة، التي تمنح الصحافيين في صحيفة يومية أو قناة تلفزيونية امتياز الوصول إلى المؤسسات الرئيسية في المجتمع بأكمله.

من مفاتيح اللغز، أيضا، لفهم أسرار صمود الصحافة التقليدية اليابانية، هو التنظيم الجيد والعقلاني للعمل الصحافي في مختلف حلقات سلسلة الإنتاج، من التوظيف إلى النشر والتوزيع والبث، مما يجعل منها صناعة صحافية حقيقية، في مؤسسات صحافية وطنية يتجاوز عدد صحافييها الألف صحافي، كما أن أعداد الصحافيين في الصحف الجهوية، يصل إلى المئات، كلهم يحظون بقيمة اعتبارية عالية لدى المجتمع ويتلقون أجورا محترمة، لكن الانتماء للمؤسسة، المنظمة، عبر مكاتب في كل المدن وفروع جهوية، وأنظمة صارمة في العمل، هو العامل الرئيسي في هذا الوضع الاعتباري والمادي.

وإذا كان هذا النموذج الياباني، من بين النماذج الناجحة في العالم، حيث حافظت الصحافة الورقية على قوتها، فإن الأمر لا يختلف في عدد آخر من البلدان، التي تمكنت فيها الصحافة الورقية من الصمود، في الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، بفضل التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والمهني، الذي تفاعل مع الصدمة الرقمية بشكل جيد، نظرا لنجاعة هذا التنظيم، الذي يكمن سر نجاحه في وجود مؤسسات صحافية قوية، قادرة على تنويع أشكال الإنتاج والدخول في العالم الرقمي، من خلال كل ما يتيحه من إمكانات، لكن ذلك لم يتم إلا بفضل سيادة منطق الصناعة الصحافية، التي تقتضي التوفر على الموارد البشرية ذات الكفاءة في مجالات الصحافة والإدارة والتخطيط والبرمجة.

إن القيمة الاعتبارية للصحافة في المجتمع لا تصنع بمجرد الإعلان عن الانتماء للمهنة، بقدر ما تكرس هذه القيمة من خلال الوظيفة الاجتماعية التي يؤديها الصحافي، ليس بشكل معزول، بل داخل كيان صحافي منظم وقوي، لا يمكن أن ينجح في ظل نماذج استثمارية هشة وعشوائية، وقوانين تشجع التشرذم في قطاع الصحافة، وبنيات غير قادرة على الاندماج في منطق الصناعة الصحافية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى