بوغطاط المغربي | حرب الوعي السيادي.. حرب كل المغاربة الحلقة 5: هشام جيراندو ونمط جديد من الجريمة السيبرانية العابرة للحدود

لم تعد الجريمة السيبرانية مجرد تهديد نظري أو ملف جانبي في نشرات الأمن الرقمي. فقد أصبحت اليوم معول هدم فعلي لهيبة الدول ومقومات استقرارها، خاصة حين تجد هذه الجريمة من يؤويها ويمنحها الغطاء القانوني والإعلامي.
والمثال الأبرز على هذا الانزلاق، هو حالة كندا، التي تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى بيئة حاضنة لمنصات التشهير والتحريض السياسي، وعلى رأسها المنصة التي يديرها هشام جيراندو، الإرهابي المدان الذي انتقل من الهامش إلى موقع تهديد حقيقي لأمن وسلامة الأشخاص قبل الدول، في ظل صمت رسمي كندي يُثير أكثر من علامة استفهام.
بدأت القصة كمحاولة مراهقة للفت الانتباه، لكن سرعان ما تحولت إلى مشروع إجرامي منظم. جيراندو، الذي سبق أن تمت إدانته من قبل القضاء المغربي سنة 2025 بتهم تتعلق بالإرهاب والتحريض، وسبق للقضاء الكندي نفسه أن أصدر ضده عدة أحكام تدينه بالتشهير وازدراء القضاء والإساءة والمس بالحياة الخاصة للمواطنين، عاد في يوليوز 2025 ليُدان مجددا في قضية تشهير مشدّد استهدفت المحامي المغربي عادل سعيد لمطيري، مع تغريمه بأكثر من 164 ألف دولار كندي وإصدار أمر قضائي يمنعه نهائيا من إعادة نشر أي محتوى مشابه.
المحكمة وصفت حملته بالمغرضة والمنظمة، وأكدت أنه “تصرف بوقاحة وبنية الإضرار”، معتمدا على “مصادر واهية” لا ترقى إلى مستوى العمل الصحفي المهني. إلا أن الأدهى من ذلك، هو تماديه بعد صدور الحكم، حيث أعاد بث مقاطع التشهير في تحدّ صارخ للقانون الكندي، ما يكشف أن المشكلة ليست في الأحكام القضائية، بل في غياب آليات الردع والتنفيذ داخل نظام قانوني بات عاجزا عن ضبط زمام الأمور.
لكن الأخطر يتجاوز التشهير والتحريض. فقد كشفت التحقيقات الأمنية المغربية أن جيراندو يدير شبكة رقمية عابرة للحدود، متورطة في عمليات ابتزاز وتحويل أموال مشبوهة انطلاقا من كندا.
في يونيو 2025، أوقفت الشرطة المغربية سيدة تُدعى “شيماء.إ”، تعمل بوكالة للهجرة في كندا، فور وصولها إلى مطار محمد الخامس، بعد أن ثبت أنها كانت الوسيط المالي لجيراندو داخل كندا. المبالغ التي تولت تحصيلها وصلت إلى آلاف الدولارات الكندية، بعضها مقابل التوقف عن حملات تشهير، وبعضها الآخر مقابل خدمات أكثر دناءة، من بينها محاولة استدراج ضحايا نساء إلى علاقات جنسية قسرية بطلب من أطراف “زبائن” لدى جيراندو.
ما يتّضح من هذا كله أن جيراندو لا يعمل بمفرده. فشبكته تشمل وسطاء، حسابات رقمية، قنوات للتمويل، ومواقع تمويه قانونية، تُستغل كواجهة لعمليات غسيل الأموال واستلام عائدات الابتزاز. المادة 346 من القانون الجنائي الكندي تُجرّم بشكل واضح أي شخص يحصل على مال عبر التهديد أو الاتهام أو الضغط، ومواد أخرى تعاقب بالسجن من يمارس الاحتيال وغسل الأموال. ومع ذلك، لم تتحرك السلطات الأمنية والقضائية الكندية لفتح تحقيق شامل رغم توالي المعطيات والدعاوى والإدانات. إنها حلقة فراغ قانوني يتغذى عليها مجرم متسلسل، يواصل جرائمه بثقة العارف أن النظام لن يمسّه فعليا.
ورغم أن المحتوى الذي ينشره هذا الشخص يرقى في كثير من الأحيان إلى مستوى التحريض على القتل، كما في حالة تهديده للوكيل العام السابق للمملك نجيم بنسامي حين دعا إلى “إعدامه ثم إحيائه ثم إعدامه مجددا”، فإن السلطات الكندية لا تزال تتعامل مع الأمر كـ”نزاع رقمي”، بدل التعاطي معه كتهديد إرهابي غير تقليدي.
بل الأسوأ، أن هذه الحالة تُستغل من قبل أطراف داخل كندا وخارجها كمنصة لتوجيه دعاية سياسية خبيثة ضد المغرب ومؤسساته، مع تغليف الجرائم بشعارات مثل “حرية التعبير” أو “محاربة الفساد”، في حين أن السجل الحقيقي لجيراندو يكشف عن علاقات مشبوهة مع شخصيات ملاحقة قضائيا مثل مهدي حيجاوي وأخرى مشبوهة مثل إلياس العماري، وحتى تجار مخدرات في المغرب وشخصيات مافيوزية في كندا تنشط في تجارة المخدرات، من بينها شركاؤه في شركة كندية تم تأسيسها سنة 2019 مع أشخاص مدانين بتهم الاتجار بمخدر الكريستال ميث والارتباط بعصابات”Hells Angels”.
أما منصات التواصل الاجتماعي، التي من المفترض أن تكون خاضعة لسياسات صارمة بشأن خطاب الكراهية والتحريض، فقد تحولت إلى أدوات في يد هذا الشخص لنشر الأكاذيب، وتضليل الرأي العام، وتأجيج مشاعر الحقد والانقسام، وكل ذلك دون رقابة فعلية، ما يجعلها شريكة – ولو ضمنيا – في تفشي هذا النمط من الجريمة.
القضية، إذن، لم تعد تخص المغرب وحده. ما يجري اليوم هو تهديد مباشر لمفهوم السيادة الوطنية في العصر الرقمي، وامتحان حقيقي لجدية الدول الديمقراطية في مواجهة استغلال الحريات لأغراض إجرامية. إذا كانت كندا، الدولة ذات التاريخ الطويل في بناء صورة مؤسساتية تقوم على القانون والعدالة، تسمح بتحويل ترابها إلى قاعدة خلفية لابتزاز مواطنين في الدول الشريكة، فإن السؤال لم يعد متى ستتحرك؟ بل ما الذي يمنعها من التحرك؟
في المقابل، تواصل الأجهزة الأمنية المغربية أداءها الاستثنائي في تفكيك الشبكة، من الداخل والخارج، بإيقاع احترافي يثير التقدير. لكنها لا تستطيع وحدها خوض هذه المعركة. فإفلات جيراندو من العقاب يعني، بكل بساطة، شرعنة الابتزاز السياسي، وفتح باب خطير لتحويل الدول الديمقراطية إلى منصات لشن حروب رقمية قذرة ضد شركائها باسم الحرية.
في الحلقة السادسة والأخيرة، ننتقل إلى تفكيك الخيوط الخفية لهذه الحرب: من يمول هذه الشبكات؟ ومن يرسم أجندتها؟ ومن يتواطأ في الخفاء لتصفية الحسابات باسم “النضال الرقمي”؟





