الأخبارثقافةمستجدات

عبد الرفيع الجواهري: وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر

الخط :
إستمع للمقال

هل يمكن لقلمي النحيف أن يتشجع اليوم لتطال هامته السماء؟ هل يمكن لكلماتي أن تنسج اليوم كلمات من عالم الضياء؟ فكيف لقلم خجول أن يشرئب برأسه ليكتب عن شاعر الرفعة وجوهرة الشعراء في المغرب، عن الإنسان والشاعر، وعن الأديب والفنان، وعن الحقوقي والسياسي؛ عبد الرفيع الجواهري.

أحفر ذاكرتي بأظافر التذك، وأنبش في أوراقها المبعثرة بأناملي، فأتذكر ما رواه الصحافي والأديب الراحل عبد الجبار السحيمي عن لقائه في دمشق، بشاعر العرب الأكبر محمد المهدي الجواهري، الذي غادر دنيانا في أواسط التسعينات، والذي كان حقا واحدا من أهرامات الشعر العربي الحديث. فأثناء عناق حار مع المهدي الجواهري نعته السحيمي بجوهرة الشعر العربي، فرد عليه: “بل قل المشرقي وكفى، فعندكم في المغرب جوهرة غالية”.. وكان يقصد عبد الرفيع الجواهري.

وحين يخصك شاعر في حجم المهدي الجواهري بهذا التكريم، فلكأنه أمير الشعراء أحمد شوقي، أو شاعر العربية حافظ إبراهيم من يضعك في مصاف الكبار.

لقد انفلت قلمي في ليلة باردة لينزوي قرب دفء ورقة بيضاء،.. فيعبث بهذه الكلمات.. بينما كان الراحل محمد الحياني يشدو على مسمعي عبر المذياع بالأغنية الخالدة “راحلة”:
وأنت قريبة ..أحن إليك
وأظمأ للعطر ..للشمس في وجنتيك
وحين تغيبين..
يغرق قلبي في دمعاتي
ويرحل صبحي ..تضيع حياتي…..

وافتكرت حينها، أن عبد الرفيع كان يعاني من أزمة صحية، فاستفقت من غفوتي، وكأنني كنت أحلم في عمق النوم، وتمتمت ببعض الكلمات متسائلا:
ألا يحق للمغرب أن يفخر اليوم أن لديه شاعرا قل مثيله؟ نعم إن شاعرا كبيرا بيننا، تجول كلماته بوجداننا، شاعر صادق لا يعرف للتملق سبيلا، ولا يزاحمه التكلف أثناء مطاردته للصورة والإيقاع والكلمة.. إنه صاحب “القمر الأحمر”، وصاحب الشاطئ، وصاحب “راحلة”، وصاحب ما يصعب للزمان أن يجود بمثله، ولكن، ونحن نعلم أن الشاعر مازال بيننا، أطال الله عمره، ولازالت له القدرة لينعم علينا بعطائه، فمن أين لك بعبد السلام عامر كي يعطر تلك الكلمات بألحانه الرائدة، ومن أين لك بحنجرة محمد الحياني وقد طواها الثرى، أو شدو عبد الهادي بلخياط الذي اختار الزهد لسبيله؟ من أين لك إذن بهؤلاء جميعا؟ لقد التأموا فيما بينهم في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، فأبدعوا ما يستعصي على الكلمات وصفه اليوم ..أبدعوا الإبداع في حد ذاته، والخلق في صدقه، والعطاء في كرمه، والإلهام في روحانيته.. وكأنك بجماعة من متصوفي الزمن الجميل التفوا حول فكرة ربانية ليصفوها، أو أمام أربعة من فرسان العصر الرومانسي، وقد امتطوا صهوة أجيادهم لتكر وتفر، وتقبل وتدبر أمام القلوب العطشانة للحب! أم أنك أمام عباقرة نهضوا من بين أوراق دفاتر مكتبات العصر العباسي، أم إنهم فلاسفة أتوا من عصر العرب الذهبي وقد أودع الله فيهم سرا فقرروا حينها كشفه للعباد! نعم، تعروا من كل التكاليف والتصانيف، ورفضوا التستر وراء المساحيق اللماعة والمراهم البراقة، إنهم عباقرة الزمن المغربي: عبد السلام عامر: الملحن الذي كان يبصر بنور عوده، وعبد الرفيع الجواهري: الشاعر الذي يطارد الصور فتنجذب إليه بعذوبة وامتثال، ومحمد الحياني وعبد الهادي بلخياط: وهما حنجرتان ما جاد الزمن بمثلهما وقد مرت خمسون سنة كاملة إلى اليوم، بل إلى أن رمانا الزمن المغربي بين أحضان العبث في الغناء، وها نحن نفضل العيش مع آهات الحنين، تحت غطاء الماضي الجميل.

قبل أن تبكي النبوغ المضاعا *** سبّ من جرّ هذه الأوضاعا
سبّ من شاء أن تموت وأمثا *** لك همّا وأن تروحوا ضياعا
صدقني أيها الشاعر السخي بعطائه، سيذكرك قومك وستذكرك أجيال وأجيال ما بعد قومك. إن ما بقي من نخب الكلمة والأدب، تعتز بك وتباهي بك الأمم.. صدقني أنك نافذة نطل منها على همومنا فنترصدها، ونتتبع عبرها خطوات زمننا الثقيلة.. ولعل نافذتك في جريدة “الاتحاد الاشتراكي”، أواسط الثمانينيات، كانت تنبهنا إلى ما نحن إليه ذاهبون ..رحل الفن، وبقيت “راحلة”.. ضاعت الأقمار، وبقي “القمر الأحمر”.. تبخرت المواعيد، وبقي “ميعاد” واحد.. إنهم يعبرون جميعا في كلامهم العابر، لكنك تبقى رفيعا ومترفعا، أدام الله رفعتك وحماك من كل سوء:
مـا حَـطَّموكَ، وإِنمـا بـكَ حُـطِّموا
مــن ذا يُحـطِّم رَفْـرَف الجـوزاء؟
اُنظُـره، فـأَنت كـأَمْسِ شـأْنُكَ بـاذخٌ
فـي الشـرقِ، واسْـمُكَ أَرفعُ الأَسماءِ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى