
وأنت تذرع أبواب ذاكرتنا الجماعية، متأملا في الحال والمآل بعد ربع قرن من تربع الملك محمد السادس على عرش أسلافه الميامين، تتجاذبك مشاعر بالغة التكثيف والارتباط بأحداث بصمت مغرب اليوم، ولا شك أنها ستبقى عابرة فينا وفي الأجيال بعدنا إلى مغرب الغد، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ولأن حق الامتلاء من الاحتفاء المتخلص من تعسف الأنا على الكلمات، يسعفني في تحويل قلمي إلى عدسة كاميرا تترصد بعض اللحظات المشحونة بمشاعر دافقة، فقد أرخيت له العنان ليجود بهذه اللحظات العشر كالآتي:
اللحظة الأولى: مات الملك، عاش الملك
بملامح ملكية تتزاحم فيها مشاعر الألم على فراق الوالد مع مشاعر العزم على تحمل أمانة عرش ممتد لقرون من الزمن، أطل العاهل المغربي محمد بن الحسن ليعلن إلى عموم الأمة أن جلالة المغفور له الحسن الثاني قد أسلم الروح إلى بارئها. في المساء نفسه، يشهد الجميع على لحظة حاسمة وهادئة لانتقال العرش في كامل اليسر بناء على مقتضيات الدستور ووفقا للمعتمد من البيعة الشرعية، بوصفها قواما لإمارة المؤمنين وتوقيعا لميثاق غليظ يطوق عنق الحاكم والمحكوم، ليحمل الجميع على تحري أسباب الأمن والتئام شمل الأمة ووحدة كلمتها.
اللحظة الثانية: عقد قران بين الملك وبنت الشعب
لم ترتسم اللحظة الإنسانية التي تقاسم فيها الملك محمد السادس مع شعبه أفراح عقد قرانه على الأميرة لالة سلمى بوصفها مجرد اقتران بين روحين، بل تأكيدا لأسلوب ملكي متفرد في التواصل الإنساني بين العرش والشعب، وإعلانا لشجاعة ملكية على التوليف المعتدل بين صون التقاليد المرعية والانفتاح المفكر فيه على التجديد من جهة، وإشارة تمكين لعهد جديد للمرأة المغربية من جهة ثانية.
اللحظة الثالثة: ميلاد ولي العهد
يمثل ميلاد ولي العهد الأمير مولاي الحسن، بوصفه لحظة إنسانية بالغة التأثير في حياة الأسرة الملكية وترقى إلى أن تكون شأنا يهم الأمة المغربية، وذلك لكونه موسوما بدلالات رمزية على الاستمرار الذي يعد شرطا للاستقرار. كما أنه ترسيخ في وجدان الشعب المغربي لمركزية الأسرة في التنظيم الاجتماعي المغربي، وتوطيد لعواطف الأبوة والأمومة وما تستبعه من إشارات الحفاظ عليها بالنسبة إلى الأجيال الشابة من بنات وأبناء الشعب المغربي المقبلين على الامتلاء من الحياة الطيبة بكل فرح.
اللحظة الرابعة: تفجيرات البيضاء أو اختبار النار
في السادس عشر من ماي 2003 تسللت أيادي الظلام إلى البيضاء الآمنة، لكي تفجع المغاربة بحمام من الدماء، في توقيع غير مسبوق على سلوك نشاز عن الأمة المغربية السمحة. ولكون عرش العلويين كان دوما على صهوات جيادهم، فإن ألم الفاجعة جرت ترجمته إلى انبعاث ملك ويقظة مؤسسات والتحام شعب من أجل التصدي إلى الطارق الغريب، فكان من مآلات ذلك استعادة للطمأنينة والسكينة وإصلاح عميق للحقل الديني المكفول حصرا لإمارة المؤمنين.

اللحظة الخامسة: مدونة الأسرة ومهمة التوازنات
تكشف التدافعات السياسية والإيدلوجية والاجتماعية التي رافقت مسار إصلاح مدونة الأسرة عن عميق التنوع والتعدد الذي يسم المجتمع المغربي، كما تفصح التعبيرات التي رافقتها كذلك عن مشاعر التخوف والتطلع والأمل التي تناوبت على وجدان مختلف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين حول مستقبل الأسرة عموما وأسئلتها الحارقة التي تهم شؤون المرأة والطفل على وجه الخصوص. في مقابل ذلك، يدرك المغاربة مرة أخرى واحدة من المهام اليومية للجالس على العرش، والتي تتطلب تدبيرا رشيدا للتوافقات وضبطا هادئا للتوازنات المجتمعية، مع الحاجة إلى مدونة للأسرة تتوافق مع الشريعة الإسلامية وتستجيب لمتطلبات العصر وأسئلته المستجدة.
اللحظة السادسة: الإنصاف والمصالحة كاثارسيس مغربي بامتياز
تستحق تجربة الإنصاف والمصالحة وصفها بالكاثارسيس المغربي، ذلك أن المكاشفة التي رافقت جلساتها وتحقيقاتها مكنت من الاستشفاء الجماعي المفضي إلى التعافي، وأسعفت في الحسم مع ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، مع وثيق العزم على الإصلاح المؤسسي والتمكين الحقوقي الضامنين لمستقبل عادل ومنصف ومقتدر على تدبير اختلافاته بكل سلمية ورقي. وهي اللحظات الإنسانية التي لم يكن ليكتب لها النجاح لولا اللقاء التام بين إرادة ملك مناضل وشجاع في اقتحام عرين الحقيقة مهما كانت موجعة، وبين نضالات شريفات وشرفاء الوطن المتسامين عن المزايدة والساعين إلى مصالحة حقيقية.
اللحظة السابعة: ربيع مغربي من درجة دستور
في الوقت الذي كانت فيه عدد من الأنظمة في العالم العربي تتلاطمها أمواج ما سمي بالربيع العربي، بعد أن انجر حكامها إلى التعنت وصم الآذان، كان الملك محمد السادس يرسم طريقا إلى الاستقرار، كان من نواتجه خطاب التاسع مارس الذي رفع فيه الملك سقف الإصلاح الدستوري عاليا، مستجيبا لتطلعات شباب عشرين فبراير الحالم ولحركتهم التي هي اليوم جزء لا ينفصل عن التاريخ السياسي المغربي المعاصر، وهي أيضا ملمح من ملامح العبقرية المغربية في تدبير المختلف فيه والمتفق عليه بروح مغربية متفردة، وقادرة على استيعاب وطأة مشاعر اللحظة واندفاعيتها بتبصر وعقلانية منتجة.
اللحظة الثامنة: جائحة كورونا
تصر لحظة جائحة كورونا على شغل أحياز كبيرة من ذاكرتنا الجماعية، كيف لا ونحن شهود على نموذج حي لأثر الفراشة التي حركت جناحيها في الصين وامتدت آثارها إلى نقط بعيدة من أرجاء الأرض. نحن أيضا شهود على شعور الرعاية السامية، الذي نسج به الملك شبكة أمان اجتماعي للوطن والمواطنين، خيوطها توليفة من صندوق الجائحة الذي أسعف ذوي الفاقة، واحترازات صحية كبحت لجام الفيروس اللعين. أما الدروس فكانت تصميما على تحقيق السيادة الصحية والدوائية وبعثا لروح التضامن بين الأجيال بعد أن تذكرنا أن مصيرنا مشترك. وفي غمرة كل ذلك يظهر ملك البلاد وهو يبسط ذراعه لتلقي جرعة اللقاح، في ترجمة حية لكلماته: ما تعيشونه يهمني وما يصيبكم يمسني.
اللحظة التاسعة: ملحمة أسود الأطلس
لا تفلت لحظات الفرح الملكي والشعبي من قبضة التقاطنا الجماعي لها، عل إثر الملحمة الكروية التي سطرها أسود الأطلس في كأس العالم في دورتها القطرية، محفوفين بالجماهير المغربية الملتحفة بدفء العلم المغربي، ومحاطين ببركات الأمهات المغربيات اللواتي أسرن قلوب العالمين وهن يتراقصن طربا على أرض الملعب عقب كل انتصار من انتصاراتنا الجماعية. في تلك اللحظات، كنا نتابع المايسترو فوزي وعيناه على الهاتف، منتظرا أن يحمل إليه برقية من عاهل البلاد، فيها البركات والدعوات والتبريكات.
لن تستطيع سطوة الأيام أن تمحو من ألبوم ذكرياتنا الجميلة، لحظات خروج ملك البلاد، ليقاسمنا فرحة الانتصار في شوارع العاصمة بعد أن دك الأسود الثورا الإسباني الجامح دكا. كما أنه ليس للنسيان سبيل إلى أحلامنا الجماعية الجميلة ولصورة أمهات اللاعبين في كامل بهاء وخيلاء المغربيات الحرائر، وهن محيطات بصاحب الصولة والصولجان، والابتسامة والفخر يعلو المحيا، في توقيع على جاه الأم المغربية التي تغرس حب هذه الأرض في فؤاد أبنائها أينما حلوا وارتحلوا.
اللحظة العاشرة: حين زلزت الأرض زلزالها
عندما زلزلت الأرض زلزالها، كتبت مشيئة الله لصفحة من صفحات ملحمة الملك والشعب أن تكتب مرة أخرى. فكان مرأى ملك البلاد وهو يرأس الاجتماعات مع قادة الصف الأول بلسما أولا وترياقا من المصاب، معلنا عن تحريك كل المقدرات على هذه الأرض من أجل لملمة الجراح. لقد صدحنا جميعا ومعنا الملك: نحن جسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد.
وسيبقى المنظر المهيب لمحمد السادس، وهو يمد ذراعه متبرعا بدمائه خير تفسير لكلمات نشيدنا الوطني: في فمي وفي دمي هواك ثار نور ونار. أيها الناس! في عروق هذا الشعب تجري دماء ملكية.
هذه بضع ومضات منتقاة من ربع قرن، رفقة قائد له مكنة على خلق حالة ذهنية إيجابية في هذا المجتمع؛ وفي أن يكون رمزا لوحدته المعنوية، معبرا عن القيم التي تبقيه ملتئما. وأبْلَغُ من ذلك، أنه قادر على تصور وضمان تنفيذ أهداف تبقي بنات وأبناء الأمة متعالين عن الانشغال بكل أمر عقيم، متسامين عن التنازعات التي تمزق لحمة الوطن، بصفوف مرصوصة خلف القيادة المتبصرة في رحلة تحقيق الغايات العزيزة المطلب.
هذه بعض ومضات مشحونة بلحظات إنسانية تتأببى على النسيان من حكاية سادس المحَمَّدين، رمز الأمة وضميرها الحي، والمؤتَمَن على السفينة التي كتب الله في الخالدات نجاتها.
وللحكاية بقية…





