قال محمد بن عيسى وزير الخارجية السابق وأمين عام مؤسسة منتدى أصيلة، إن التعليم كما هو متعارف عليه، هو المرآة الكبرى التي تعكس الشخصية الحضارية لأمة من الأمم بمكوناتها الثلاث: الوعي بالخصوصية والهوية، والقيم الجماعية المشتركة والمشروع المجتمعي المستقبلي.
وأوضح بنعيسى في كلمة له خلال الجلسة الافتتاحية في مؤتمر “التعليم في الوطن العربي في الألفية الثالثة”، الذي عقد بالقاهرة، أمس السبت، أنه وفق هذه الأطروحة لا مناص من الاعتراف أن واقع التعليم العربي يعكس حاليا حالة المجتمع العربي، التي من أبرز سماتها: اختلال خطير ومتفاقم في الوعي وضياع متـزايد في موجهات العملية التربوية الملتبسة ؛ وانحسار منظومة القيم الاجتماعية وانفصامها إلى حدٍّ كبير عن النظام التربوي ؛ وغياب مشروع مستقبلي حقيقي يُؤطر العملية التربوية ويوجهها.
وأكد بنعيسى أن النظام التعليمي العربي نظام يعيد إنتاج وتدوير الأمية، ولا يتمكن من القضاء عليها. وتلك ضرورة المهمة البدائية الأولى لأي منظومة تربوية. فلا زال 21 بالمائة من العرب أميين وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالمتوسط العالمي الذي يصل 13 بالمائة. ومن المؤسف أن مجهود محاربة الأمية قد تراجع في عدة بلدان عربية، نتيجة للحروب الأهلية، والصراعات الداخلية والاضطراب السياسي .
وأشار رئيس بلدية أصيلة إلى أن تدني نسبة التمدرس العامة التي لا تتجاوز 85 بالمائة من الفئة العمرية 24-25 سنة، في حين تصل نسبة التسرب المدرسي داخل هذه الفئة قرابة 30 بالمائة وهي نسبة مهولة تدل على فشل المدرسة العربية في احتضان وإدماج هذه الفئة التي تمثل أغلبية سكان العالم العربي.
وقال ذات المتحدث إن انهيار المدرسة العمومية التي شكلت تاريخياً وعاء المواطنة والجسر إلى الرقي الاجتماعي، ولم تعد في غالب الأحيان قادرة على أداء مهمتها. في حين لا تزيد نسبة التعليم الخاص عن 10 بالمائة نتيجةً لضعف إمكانات الأسر العربية في تمويل تعليم أبنائها. ومن هنا أصبحت المدرسة مؤسسة تعيد إنتاج الفوارق الطبقية والاجتماعية وتزيد من تفاقمها. بالإضافة إلى انفصام المدرسة عن سوق العمل، إذ تصل النسبة العامة للبطالة في العالم العربي 14,3 بالمائة من القوة العاملة، وهي نسبة مرتفعة تزيد سنويا بواحد بالمائة وتزيد على 30 بالمائة في بعض البلدان .
وأضاف بنعيسى أن تراجع استخدام اللغة العربية في النظام التعليمي العربي، خصوصاً في التعليم التقنِّي والفنِّي، بما يعني عجز السلط العمومية المعنية بالتخطيط التربوي على تقديم المنتج المدرسي باللغة الوطنية للطالب. والمعروف أنه قد استقر عند علماء التربية أن التحصيل بلغة الأم حاسم في نقل العلوم والمعارف. إلى جانب هذه الاختلالات الجوهرية التي تخص المجتمع العربي، تتعين الإشارة إلى تحديات كبرى تطرحها ديناميكية العولمة الجديدة، ومن أهمها: تغير وسائط المعرفة والعلم نتيجة لثورة الاتصالات الجديدة التي أثَّرت نوعيّاً على مفهوم التربية ونُظُم اشتغالها، و التغير النوعي في طبيعة العمل وفي ثنائية الإنتاج والاستهلاك التي هي صلب المنظومة الاقتصادية، بما لهذا التَّغير من تأثيـر كبير على مخرجات العملية التربوية. بالإضافة إلى تغيـرٌ نوعي في التركيبة الثقافية واللغوية للنظام التربوي بسيطرة اللغة الانجليزية على 51 بالمائة من المحتوى العام في شبكة الإنترنت، في حين لا يتجاوز المحتوى العربي 0,7 بالمائة، مع أن العربية هي اللغة الرابعة من حيث عدد مستخدمي النِّت.
وقال بنعيسى في كلمته إن الإشكال المحوري الذي لا بُدَّ أن يطرحه القائمون على التعليم في الوضع الراهن وهو: ما هو المشروع المجتمعي الذي تسعى منظومتنا التربوية لتحقيقه؟ أي بعبارة أخرى، ما هو النموذج الحضاري والمجتمعي الذي يراد للتعليم بمختلف مستوياته أن ينجزه؟ من البديهي أن هذا السؤال ليس خاصاً برجل التربية مدرسا كان أو مشرفا على عملية التدريس والتكوين. بل هو من مسؤوليات النُّخبة الفكريَّة والسياسيَّة المُخولة بتصور المُثل الاجتماعية الكبرى وتحديد السُّبل العملية لتجسيدها.
إنَّ المشروع الاجتماعي الذي نُنشده، بصفته الإطار المرجعي لنظامنا التربوي، لا يتشكل إلا من خلال النقاش الفكري الحر والرصين الذي ندعو إليه ونراه خياراً لا محيد عنه لصناعة المستقبل العربي، عل حد تعبير المتحدث.
وأكد بنعيسى أنه إذا كان التحديث غايتنا، فيجب الاتفاق الهادئ على التخلص من ثقل “الماضوية” المعرقلة للتقدم، وليس الماضي الذي سيظل، شئْنا أم أبيْنا، حاضرا بمعنى من المعاني في راهننا.هذا النهج، سيُفضي إلى قرارات جريئة، تأخذ بعين الاعتبار قدرة كل مجتمع على التعاطي مع صدمة التحديث، بما يترتب عنها من إصلاحات ومراجعات عميقة تطال الكثير من جوانب الحياة.
وأخيراً، يضيف بنعيسى، يتطلب إصلاح المجتمعات شجاعة وإرادة وإقداماً وأيضا نزاهة فكرية وأخلاقية، على غرار دول من الشرق والغرب اتبعت نفس النهج واعتمدت ذات المرجعيات. بعبارة أخرى يستحيل التحديث في ظل الاستبداد بكل أنواعه. استبداد الفكر والتاريخ والماضي. علماً أنَّ قرار إصلاح التعليم يخضع أولاً وأخيراً للإرادة السياسيَّة لكل دولةٍ عربيَّةٍ والالتزام الجدِّي بمنهجية الإصلاح بكل مستجداتها وتحدِّياتها.