معهد فرنسي: الاستخبارات المغربية تتجه نحو نموذج متقدم يجمع بين الكفاءة القانونية والمؤسسية واستباق التهديدات الحديثة

أفاد تقرير صادر عن معهد “R.O.C.K” الفرنسي المتخصص في الدراسات الجيوسياسية والأمنية، بالتعاون مع مجموعة “Quantinel” الفرنسية في غشت 2025، أن الاستخبارات المغربية تشهد تحولا عميقا يوازن بين التحديث القانوني، التطوير المؤسسي، واستباق التهديدات الحديثة، بما فيها الإرهاب العابر للحدود، الحرب الهجينة، الجريمة السيبرانية، وتحديات الذكاء الاصطناعي.
ووفق التقرير، الصادر بعنوان “الاستخبارات في المغرب: التطور القانوني، التحولات الاستراتيجية، وتحديات السيادة في عصر التهديدات الهجينة”، تُعرَّف الاستخبارات، في بعدها الاستراتيجي، بأنها أنشطة البحث والتحليل والمعالجة ونشر المعلومات بهدف دعم القرار السياسي والعسكري والاقتصادي والأمني، بما يجعلها أداة سيادية تتجاوز مجرد مكافحة الجريمة أو الإرهاب. وفي السياق المغربي، ارتبط هذا الدور بتاريخ طويل في الدفاع عن الوحدة الترابية وحفظ النظام الداخلي، مع ضرورة الموازنة بين الفعالية الميدانية والالتزام بالقوانين الوطنية والدولية، بما فيها معايير حقوق الإنسان وحماية المعطيات.
ويشير التقرير إلى أن أحداث 16 ماي 2003 في الدار البيضاء، التي أوقعت 45 قتيلا وأكثر من 100 جريح، شكلت نقطة تحول رئيسية، حيث سارع المغرب إلى إصدار القانون 03-03 لمكافحة الإرهاب، الذي عدّل القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية، ووسّع صلاحيات البحث والتحقيق، وأرسى أسس التعاون الدولي في هذا المجال.
كما يوضح التقرير أن دستور 2011 رسخ مبادئ التوازن بين الأمن والحقوق، حيث نصّ في الفصل 24 على حماية الحياة الخاصة وسرية المراسلات، وفي الفصل 27 على الحق في الحصول على المعلومات، مع استثناءات تتعلق بالدفاع والأمن الداخلي والخارجي.
على المستوى المؤسسي، يبين التقرير أن المنظومة الاستخباراتية المغربية تضم المديرية العامة للدراسات والمستندات (DGED) المكلفة بالتهديدات الخارجية، ومديرية مراقبة التراب الوطني (DGST) المختصة بالأمن الداخلي ومكافحة التجسس، إضافة إلى الاستخبارات العامة ضمن المديرية العامة للأمن الوطني (DGSN)، ووحدات استخبارات الدرك الملكي. موضحا أن القيادة الاستراتيجية لهذه الأجهزة تتم بتوجيه من الملك محمد السادس، القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية، وبتنسيق مع وزارات الداخلية والخارجية وإدارة الدفاع الوطني.
ويبرز تقرير المعهد الفرنسي أهمية القيادة الاستراتيجية داخل المنظومة الأمنية المغربية، مشيرا إلى أن الجمع بين رئاسة المديرية العامة للأمن الوطني (DGSN) ومديرية مراقبة التراب الوطني (DGST) منذ سنة 2015 تحت قيادة عبد اللطيف حموشي يمثل نموذجا نادرا من القيادة الموحدة، التي عززت التنسيق العملياتي والتكامل في العمل الأمني. فيما مكّن هذا الإطار الموحد، من تحديث مستمر للمنظومات الأمنية، وتوسيع نطاق التعاون على المستويين الوطني والدولي. كما يحظى حموشي، يشدد التقرير، بتقدير يتجاوز الحدود المغربية، حيث نال عدة أوسمة وشهادات تقدير من دول مثل إسبانيا، فرنسا، والولايات المتحدة، اعترافا بكفاءة واحترافية أجهزة الأمن المغربية.
وفي المقابل، يلفت التقرير الانتباه إلى دور المديرية العامة للدراسات والمستندات (DGED) بقيادة محمد ياسين المنصوري، أول مدني يتولى هذا المنصب، والذي استطاع المزج بين العمل الدبلوماسي والاستخباراتي، مما عزز مكانة المغرب الإقليمية والدولية. وتؤكد الوثيقة أن خبرته في بناء شراكات طويلة المدى مع شركاء أجانب أسهمت في تعزيز المصداقية الاستراتيجية للمملكة، كما حظي هو الآخر بتكريم رسمي في عدد من الدول، تقديرا لدور المغرب في ترسيخ الاستقرار ضمن بيئة إقليمية معقدة.
ويشير ذات التقرير إلى أن الإطار القانوني المنظم لعمل الاستخبارات والأمن في المغرب يرتكز على مجموعة من النصوص الوطنية والاتفاقيات الدولية، في مقدمتها دستور 2011 الذي نصّ في الفصلين 24 و27 على حماية الحياة الخاصة وسرية المراسلات وضمان الحق في الحصول على المعلومات مع استثناءات للأمن والدفاع. كما يشمل هذا الإطار القانوني القانون 03-03 لمكافحة الإرهاب الصادر سنة 2003، والمادة 108 من قانون المسطرة الجنائية التي تتيح اعتراض الاتصالات بإذن قضائي.
إضافة إلى القانون 53-05 للتبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية لسنة 2007، والقانون 09-08 لحماية المعطيات الشخصية الصادر سنة 2009، والقانون 43-05 المتعلق بمكافحة غسل الأموال الصادر سنة 2007 والمعدل سنة 2021، فضلا عن القانون 05-20 لأمن الأنظمة المعلوماتية لسنة 2020. وعلى الصعيد الدولي، يعتمد المغرب على اتفاقيات مرجعية مثل اتفاقية بودابست حول الجريمة المعلوماتية التي انضم إليها سنة 2018، والاتفاقية 108/108+ لمجلس أوروبا بشأن حماية البيانات التي التحق بها سنة 2019.
وفي سياق متصل، يبرز التقرير أن طبيعة التهديدات قد تغيرت؛ فبينما ركزت الاستخبارات المغربية سابقا على وحدة التراب والاستقرار الداخلي، مع اعتماد كبير على جمع المعلومات البشرية (HUMINT)، تواجه اليوم بيئة معقدة تشمل الإرهاب العابر للحدود، الحرب الهجينة، التجسس الاقتصادي، الجرائم السيبرانية المتطورة، وتحديات التكنولوجيا الكمية. كما شدد المصدر نفسه على أن سرعة التطورات التكنولوجية تفوق أحيانا وتيرة التشريع، ما يجعل من الضروري اعتماد تشريعات مرنة وقابلة للتكيف، خصوصا في مجالات الذكاء الاصطناعي، التزييف العميق، التشفير المتقدم، وحوكمة البيانات.
وفي هذا الصدد، يقترح التقرير حزمة توصيات لتعزيز القدرات الاستخباراتية المغربية، من أبرزها ضرورة سن قانون-إطار خاص بالاستخبارات يحدد بدقة المهام والصلاحيات والضوابط، وتحديث المادة 108 من قانون المسطرة الجنائية بما يتلاءم مع التطورات التكنولوجية في مجالي الحوسبة السحابية والتشفير.
كما يدعو التقرير إلى تعزيز تطبيق القانون 05-20 المتعلق بأمن الأنظمة المعلوماتية، وإدماج تقنيات التشفير ما بعد الكمي ضمن السياسات الوطنية للأمن السيبراني، إضافة إلى وضع إطار وطني لحوكمة الذكاء الاصطناعي في المجال الأمني، وأخيرا اعتماد نهج منظم لنشر تقرير سنوي عام حول أنشطة الاستخبارات، بهدف تعزيز الشفافية وترسيخ الثقة بين المؤسسات الأمنية والمجتمع.
وخلص معهد “R.O.C.K” في تقريره، المنجز بالتعاون مع “Quantinel”، إلى أن المغرب يتجه نحو نموذج “الاستخبارات من الجيل الجديد” بحلول 2030، يجمع بين الكفاءة العملياتية، الالتزام بالقانون، والقدرة على التنبؤ بالتهديدات المستقبلية، في عالم تتحرك فيه المعلومة أسرع من النصوص القانونية.





