الأخبارمجتمعمستجداتملف الأسبوع

ملف الأسبوع: الإفطار العلني.. بين الحرية والقانون

الخط :
إستمع للمقال

خلال العقد الأخير، طفت على السطح باقة من المطالب المرتبطة بالحقوق الفردية، ومن ضمنها أساسا العلاقات الجنسية الرضائية وزواج المثليين والإفطار الرمضاني إلى غير ذلك من المطالب/ الحقوق، التي يعتبرها أصحابها حقوقا فردية ينص عليها الميثاق العالمي لحقوق الإنسان وتكفلها المعاهدات الدولية ذات الصلة؛ في حين يراها خصومها بالمقابل ذريعة ليس إلا، وإن كانت مغلفة بثوب الحقوق الفردية، لأنها تمثل في نظرهم تهديدا يستهدف الأمن الروحي للمغاربة.

على هذا الأساس، ومن هذه الزوايا إذن، سنعالج موضوع “الإفطار العلني في شهر رمضان بين الحرية والاستفزاز والقانون”، وسنحاول أن نقترب من بؤرة هذين الموقفين المختلفين حد التعارض، لنستكشف المنطلقات والمحددات الحقوقية والدينية  والقانونية التي ينبني عليها منظور كلا الطرفين، وتمثلهما للنموذج الأمثل للسلوك الفردي وعلاقته بالمجتمع.

إلى وقت قريب، كان فعل الإفطار العلني في رمضان يُنظر إليه كخطيئة كبرى لن يسلم مرتكبها من سخط الله، ونبذ المجتمع له ونفوره منه. غير أن رياح العولمة التي اجتاحت المجتمعات، وكسرت رقابة مؤسسات التنشئة الاجتماعية تحت تأثير الوسائط الجديدة للاتصال والمعلوميات، ساهمت بشكل كبير في تحرير العقل الفردي والجماعي، وتمكنت من تفكيك بنية الضمير الجمعي الذي كان يفرض على الفرد التقيد بضوابط سلوكية عرفية في علاقاته الاجتماعية الخاصة والعامة.

هذه التحولات المتسارعة أفرزت جيلا جديدا لازال يبحث عن ذاته، ويرفض وصاية المجتمع على اختياراته السلوكية وقناعاته الفكرية. ولذلك امتلك شجاعة تكسير الطابوهات التي كانت تصنف في خانة المحرمات.

وبناء على ذلك، فليس غريبا أن نلاحظ اتساع دائرة المطالبين بالحق في الإفطار العلني، بعد أن  تجاوزوا مرحلة الفعل السري بالصوت الخافت، إلى مرحلة الفعل العلني المسموع والمنظم على شكل تنظيمات مدنية أهمها حركتي “مالي” و”مصايمينش”، ومجموعات يتفاعل أعضاؤها في ما بينهم عبر صفحات رئيسية على مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي، لتأطير شريحة مناهضي تجريم الإفطار العلني، وتوسيع قاعدة المطالبة بإسقاط الفصل 222 من القانون الجنائي، الذي يجرم ويعاقب مرتكبي فعل الإفطار العلني وقت الصيام الرمضاني.

هؤلاء يعتبرون اختيار الفرد لنمط الحياة الذي يناسب ميولاته وقناعاته حقا حصريا لا يقبل التصرف أو الوصاية. عكس ذلك،  يرفض المحافظون بشدة التسامح مع الإفطار العلني فى رمضان، سندهم في ذلك كون الإفطار العلني واحدا من التمثلات السلوكية، المراد منها اختراق منظومة القيم، وتقويض قواعد العيش المشترك للمجتمع، عبر تراكمات تفضي في النهاية إلى التطبيع الاجتماعي مع تلك التمثلات، والقبول بالتعايش مع الاختيارات السلوكية الفردية المنافية لمنظومة القيم المؤسسة للضمير الجمعي.

وإذا كانت الأغلبية الساحقة من المجتمع لازالت ترفض القبول أو مجرد التعايش مع الإفطار العلني، من منطلق ديني محض، ويعتبرون ذلك ملازما للمطالبة بحرية المعتقد، تلازم الجزء بالكل والخاص بالعام، فإن من بين هذه الأغلبية من لا يؤسسون المواقف على الأساس الديني، ولذلك فهم لا يعارضون حرية الإفطار وعدم الصوم، لكنهم يشترطون التستر في الفضاءات الخاصة، وتحاشي تعمد الإفطار  في الفضاءات العامة، تجنبا لاستفزاز الصائمين، وردود الفعل التي قد تترتب عن ذلك.

وثمة توجهات أكثر تسامحا وانفتاحا لعلماء وباحثين في الإسلام، ومن ضمن هؤلاء أحمد الريسوني الفقيه المقاصدي والرئيس السابق لحركة “الإصلاح والتوحيد”، الذي لا يمانع في إسقاط الفصل 222 من القانون الجنائي الذي يعاقب على الإفطار العلني في رمضان.

ومرد ذلك حسب الريسوني،  كون مسألة الصيام مسألة دينية وعبادة باطنية محضة، بخلاف القضايا الخلافية الأخرى مثل الحريات الفردية والعلاقات الرضائية التي اعتبرها قضايا مجتمعية. ولذلك يؤكد الفقيه المقاصدي في هذا الخصوص، أن “الصيام هو عبادة باطنية بخلاف الصلاة مثلا أو الحج أو الزكاة”.

وفي ذات السياق، يؤكد كمال ازنيدر الباحث المغربي في القضايا الإسلامية أن “النظام التشريعي المغربي يرى في الإفطار العلني لمن عرف باعتناقه الإسلام بدون موجب شرعي، مظهرا من مظاهر الردة، يجب أن يعاقب”. وزاد: “بالماضي، كان العقاب هو القتل واليوم أصبح السجن زائد غرامة مالية”.

وختم المفكر الإسلامي حديثه بالتأكيد على أن “معاقبة الردة سواء بالقتل أو السجن هو فعل مخالف لمبدإ لا إكراه في الدين الذي ينادي به الإسلام” وعلى أن “ممارسة الشعائر والطقوس الدينية يجب أن تكون نابعة عن قناعة لدى الشخص الذي يمارسها” وأنه “لا قيمة لها إن لم يكن الهدف منها إرضاء الخالق عز وجل والحصول على رضاه”.

ويذهب المطالبون بإلغاء المادة 222 من القانون الجنائي المغربي، التي تجرم الإفطار العلني، إلى حد اعتبار  إجبار الناس على الصيام إذا لم يرغبوا في ذلك مسا خطيرا بالحرية الفردية ومصادرة حق التصرف في ما يخص الفرد في ذاته ولا علاقة للمجتمع به. فيما يعتبر البعض أن هذه المادة من القانون الجنائي تخلق مجتمعًا منافقًا ومخادعًا بدل أن يتصرف الناس وفق قناعاتهم بشكل صادق وصريح.

خلاصة القول، مهما اختلفت الآراء والمواقف بخصوص مسألة الإفطار،  فإن الأكيد أن لا حكم في الإسلام يجرم هذا الفعل، بحيث لا وجود لنص قرآني أو حديث نبوي يحدد عقوبة الحد في حق المفطر علانية، بل إن المتصفح للقرآن سيجد العديد من الآيات التي تشدد على الحرية في الاعتقاد ونبذ الإكراه في الدين.

كما أن التطور الذي عرفه المجتمع، والتحولات المتسارعة في أنماط العيش والمؤثرة في العلاقات الاجتماعية، وتهالك البنيات السوسيوثقافية التقليدية التي لم تعد قادرة على أداء وظيفتها التربوية والتأطيرية، أمام حداثة جارفة تحرر الفرد من الرقابة والوصاية، وتشجعه على المبادرة الحرة؛ كل هذه المتغيرات ستكون بلا شك حاسمة في شرعنة النقاش حول الحريات والحقوق الفردية، وستفتح آجلا أم عاجلا الحوار بين مكونات المجتمع وقواه الحية، من أجل بلورة مشروع مجتمعي لبناء الحاضر والمستقبل، يكون متوافقا حوله على مرتكزاته الأساسية وخطوطه العريضة، بعد أن جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وفتحت قوسا على سؤال الهوية بين التراث والحداثة، يحتاج إغلاقه إلى تحلي الجميع بالشجاعة  الفكرية والسياسية والمسؤولية الأخلاقية والقانونية لتنمية الوطن وبناء الإنسان على مبادئ الحرية والكرامة والعدالة، وتنشئته على قيم الإنفتاح  والتسامح واحترام الآخر، فبذلك ولا شيء غير ذلك يمكن للمجتمع أن يكون متضامنا ويتعامل على أساس المواطنة بغض النظر عن الأفكار والمعتقدات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى