نساء إفريقيات ضحايا للحرب … وضحايا للسلام أيضا

مازالت تداعيات الفضائح الجنسية التي فجرتها مخيمات جمهورية إفريقيا الوسطى، وبالتحديد مخيم العاصمة بانغي، تفرض حضورها القوي والراسخ على المشهد الحقوقي العالمي، بعد تدفق الأخبار حول تزايد عدد الفتيات اللواتي ينجبن أطفالا شاع وصفهم ب “أبناء القبعات الزرق”.

القضية التي هزت المجتمع الدولي والحقوقي، تورط فيها مئات الجنود من 10 جنسيات حول العالم، استغلوا واغتصبوا فتيات لا تتجاوز أعمارهن أحيانا 12 سنة، مخلفين وراءهم ليس فقط دمارا نفسيا وبدنيا على تلك الصغيرات، ولكن أطفالا بلا آباء وبلا معيل وبلا مستقبل، في بلد أنهكتها الحرب.
ورغم أن تحقيقات عديدة فتحت في هاته القضية، كان آخرها في يناير الماضي، وقد كشفت أن عددا من الجنود ليسوا متورطين في هاته الأعمال الدنيئة وحسب، وإنما هم متورطون أيضا في ادارة شبكات للاستغلال الجنسي للفقيرات في مقابل مبالغ لا يمكن تخيل هزالتها (من 50 سنت وحتى 4 دولار)، كما كشفت عنه الأمم المتحدة خلال تحقيق فتحته مع قوات حفظ السلام المعروفة اختصارا ب “مينوسكا”، إلا أن الشكايات لا تُقابل بالإجراءات اللازمة والعقوبات الصارمة، حتى إنه لا يتسنى أخذ عينات من دم الجنود من أجل اختبارات بسيطة لإثبات الأبوة، في ظل مغادرة معظم هؤلاء الجنود إلى بلدانهم بعد انتهاء مهماتهم.

صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية فتحت تحقيقا في القضية كشفت فيه أرقاما مهولة، والتقى من خلال ذات التحقيق مراسلوها وعدد من صحافييها مع ضحايا هؤلاء الجنود، الذين تبين أن من بينهم فرنسيين وجنود آخرين من الكونغو وبوروندي ومصر والمغرب ومن افريقيا الوسطى بالذات.
روزين مينغي فتاة تبلغ الثامنة عشر من العمر، تقول إنها وفي سن ال 16 تعرضت للاستغلال الجنسي على يد أحد القبعات الزرق، من جنسية مغربية حسب قولها، خرجت روزين رفقة إحدى صديقاتها بحثا عن الطعام، ومررن بخيمة جنود، طلبن منهم بعض الطعام، فعرض بعضهم عليهن الماء والطعام والمال مقابل خدماتهن الجنسية، روزين قالت إنها وافقت على الصفقة بدافع الحاجة الشديدة للطعام.

بعد أشهر أنجبت روزين ابنها وسط وضع مادي مزر لعائلتها، تقدمت على خلاف صديقاتها اللواتي يخشين العار بشكوى لدى المكتب ووعدوها بفتح تحقيق، لكن كيف يمكن أن تثبت نسب ابنها وتتلقى تعويضات لإعالته ووالده عاد لبلاده؟
فتيات أخريات في حوار مع الصحيفة، صرحن بأنهن تعرضن تارة للاغتصاب، وتارة للاستغلال تحت ما يسمى “الغذاء مقابل الجنس” والذي نتج عنه حمل وإنجاب، تسبب لهن بترك الدراسة وتحمل أعباء جديدة هن في غنى عنها.
إحدى هاته الفتيات تقول إنها تكره ابنها أحيانا، وتفكر في قتله، كما تفكر كثيرات من صديقاتها اللواتي يتذكرن بمرارة مغتصبيهن كلما حملن الرضع بين أذرعهن.
جنود مغاربة ومصريون وبورونديون وفرنسيون وآخرون من الكونغو وبلدان أخرى لم يستغلوا فقط هاته الفتيات في عمر الزهور لمتعهم الشخصية، بل حولوا الأمر لتجارة مربحة تدر عليهم أموالا طائلة، وفاحت رائحة هاته الجرائم لتصل إلى أمين عام الأمم المتحدة الذي أمر بفتح تحقيق من جديد، لكنه تحقيق أماط هذه المرة اللثام عن تجارة سوداء مخيفة حولت صورة “القبعات الزرق” من منقذين وأبطال إلى وحوش كاسرة تستغل وتدمر أضعف المخلوقات.

بان كي مون وصف الأمر ب “السرطان” الذي يسري في هاته المنظمة التي يعد الإيثار والخدمة الانسانية النبيلة أهم سماتها، هذا السرطان حسب ذات المتحدث شوه صورة المنظمة ويحتاج لحلول سريعة، الأمر الذي عجل بفتح تحقيقات في فرنسا ودول أخرى مع هؤلاء الجنود بهدف متابعتهم بسبب هاته الجرائم في بلدانهم.
وبالرغم من كثرة التحقيقات، وفتح مراكز تلقي الشكايات من ساكنة المخيمات واتاحة خطوط هاتفية لتفادي الحرج، وتقديم دورات تحسيسية للجنود لتفادي استغلال القاصرات والمتاجرة بهن إلا أن أطفال القبعات الزرق في تزايد وتجارة القاصرات لازالت مستمرة.
شكوى رسمية في جمهورية افريقيا الوسطى قدمت هاته السنة، تمت متابعة حالة واحدة منها، وسبقتها شكاوى بلغ عددها 150 بالكونغو الديمقراطية سنة 2000 لم يتم الحسم في ولا واحدة منها، خصوصا وأن المنظمة تفصل فصلا شديدا بين الاغتصاب والجنس بالمقايضة (جنس مقابل مال أو غذاء) ما يجعل شعار العمل في هاته الثكنات كما وصف حقوقي بهيومن رايتس ووتش للواشنطن بوست (استغل القاصرات جنسيا في المخيمات وستفلت بفعلتك).
الأرقام التي سجلت في ملفات انتهاك النساء والفتيات جنسيا في المخيمات هي أرقام غير حقيقية، فهي تمثل قطرة في محيط شاسع، ولا تعطينا من الصورة الحقيقية إلا ما نراه بارزا من جبل جليدي، فبين التعتيم على ما يحصل وبين امتناع عدد من الأسر عن التقدم بشكاوى تُدفن أحلام الفتيات بالقارة السمراء يوميا وبمعلات مخيفة على يد “ملائكة النجاة والرحمة”.

مأساة مخيمات افريقيا الوسطى ماهي الا امتدادات لانتهاكات جنسية عرفتها مخيمات أخرى في البلقان وإفريقيا وسوريا وغيرها من مناطق الأزمات والنزاعات التي استدعت تدخل القبعات الزرق لحفظ السلام أو وقف إطلاق النار.
في يوم النساء العالمي، يفرض ملف الاستغلال والاعتداء الجنسي نفسه كأحد أعتى وأشرس الملفات وأخطرها في القارة السمراء، بل وحول العالم.
08 مارس 2016… هل مازلنا من التخلف على قدر يتيح لنا اعتبار انتهاك كيان وحياة امراة أو فتاة أو طفلة، “مجرد نزوة حمقاء”؟؟؟
عن واشنطن بوست بتصرف.





