
في عالم اليوم، حيث تتزايد التحديات الاقتصادية وتتصاعد وتيرة الإنفاق، لم يعد امتلاك دخل جيد كافيا لضمان الاستقرار المالي، فكثير من الأفراد، رغم رواتبهم المنتظمة، يجدون أنفسهم على حافة الإفلاس بنهاية كل شهر، المفارقة تكمن في أن هؤلاء لا يعانون بالضرورة من قلة الموارد، بل يميلون إلى إلقاء اللوم على الظروف وارتفاع الأسعار، متجاهلين أن الخلل الحقيقي غالباً ما ينبع من معتقدات مالية مغلوطة يكررونها لأنفسهم، الإنسان بطبعه ينسج “روايات داخلية” لتبرير سلوكه المالي غير المنضبط، سواء كانت هذه التبريرات مغلفة بالنوايا الحسنة أو نابعة من موروثات اجتماعية، لكنها في النهاية تؤدي إلى قرارات مالية غير رشيدة، ضغوط نفسية، وعجز مزمن عن الادخار، وقد تصل إلى مديونية طويلة الأمد، دون أن يدرك معظم الأفراد حجم تأثير هذه القناعات المضللة إلا بعد فوات الأوان.
تقرير لـ”واشنطن بوست”، سلط الضوء على خمس من أكثر “الأكاذيب المالية” شيوعا التي يتذرع بها الأفراد، من أبرزها مقولة “لا أفهم لماذا أكون مفلسا دائما”، التي تعكس إنكارا واضحا بأن الإنفاق يفوق الدخل، كذلك عبارة “لا أتناول الطعام في الخارج كثيرا”، والتي تقلل من حجم النفقات الصغيرة المتكررة التي تستنزف مئات الدولارات شهريا، وهناك أيضا الاعتقاد الخاطئ بأن “أُدير إنفاقي بشكل أفضل باستخدام بطاقة الائتمان”، بينما تُظهر الدراسات أنها تشجع على الإنفاق الزائد وتراكم الديون بسبب الفوائد، كما أن مجرد القول “لدي ميزانية” لا يجعلها فعالة إذا لم يُلتزم بها، وأخيرا، يخلط كثيرون بين المدخرات قصيرة الأجل و”صندوق الطوارئ” الحقيقي الذي يجب أن يغطي نفقات المعيشة الأساسية لعدة أشهر.
ويؤكد خبراء ماليون أن الأمان المالي لا يبدأ بالدخل بل بالسلوك، ولا يتطور بالإرادة فقط بل بالممارسة والانضباط، فكلما أسرع الشخص في كشف “أكاذيبه المالية الذاتية”، كلما سارع في بناء مستقبل مالي مستقر، فتزييف الواقع المالي عبر اختلاق روايات مريحة بدلا من مواجهة الأرقام لا يُجنّب الخسارة بل يؤجلها ويُفاقمها، وهذه الأكاذيب ليست مجرد تبريرات عابرة، بل هي آليات دفاعية نفسية تغذي قرارات مالية غير رشيدة وتُعيد إنتاج العجز المالي شهرا بعد آخر، خاصة في ظل هيمنة ثقافة “الإشباع الفوري” و”المقارنة الاجتماعية” التي تجعل من الصعب على الكثيرين رفض نمط معيشي يفوق قدرتهم الحقيقية.
إضافة إلى الأكاذيب الخمس المذكورة، يشير الخبراء إلى أكاذيب أخرى شائعة مثل “سأبدأ التوفير عندما يزيد راتبي”، وهو اعتقاد خاطئ بأن السلوك المالي سيتغير تلقائيا مع زيادة الدخل، بينما يرتفع الإنفاق غالبا بوتيرة أسرع، كذلك مقولة “الاستثمار فقط للأغنياء”، والتي تؤجل فرص الاستثمار المتاحة بمبالغ بسيطة، وهناك “أحتاج إلى مكافأة نفسي بعد التعب”، التي تُبرر الشراء العاطفي وتخلق دورة استهلاك غير منضبطة، وأخيرا، “إذا اضطررت، سأقترض”، وهو اعتماد مسبق على القروض يقود إلى دوامة الدين، فالحل ليس سحريا، بل يبدأ بـإسكات هذه الأكاذيب المالية، وبناء ميزانية بسيطة وواضحة، وصندوق طوارئ يوفر الأمان الحقيقي عند الأزمات، لأن المشكلة ليست في المال وحده، بل في طريقة التفكير به والتعامل معه.



