المدرسة العمومية بين الريادة المزعومة والطبقية المفضوحة

لطالما تخبطت المدرسة العمومية المغربية في الشعارات الكبرى والبرامج الإصلاحية المتكررة التي غالبا ما تنتهي إلى اعتراف رسمي بالفشل، وخير دليل على ذلك تصريح مديرة أكاديمية طنجة–تطوان–الحسيمة الأخير وما هو سوى حلقة جديدة من هذا المسلسل الطويل، إذ خرجت علينا بتصنيف غريب يضع التلاميذ في خانتين: “تلميذ رائد” يقابل ثمانين “غير رائدين”، في مجاهرة فاضحة بتمييز لم يعد يخجل من البروز إلى السطح. هذا التصريح الذي لا يمكن اعتباره مجرد زلة لسان عابرة، لكنه حقيقة انعكاس لعقلية رسمية جديدة ترى في التعليم فضاء للتسويق والتصنيف، لا حقا دستوريا شاملا يقوم على المساواة وتكافؤ الفرص. والأخطر من ذلك كله، أن التصريح نفسه، هو أنه يسوق منطق السوق النيوليبرالي الذي يفرّق بين أبناء الشعب الواحد على أساس معايير غير معلنة، في حين أن المدرسة العمومية يفترض أن تكون هي الفضاء الحاضن للعدالة الاجتماعية والموحّد بين أبناء الفقراء والأغنياء على حد سواء. من هنا، يصبح من حق الرأي العام أن يتساءل: هل الطبقية غزت التعليم العمومي؟ وهل نحن أمام مدرسة بسرعتين: نخبوية للأقلية، وباهتة للأغلبية؟
الرقم الذي أطلقته المديرة – أي أن تلميذاً واحداً من “مدارس الريادة” يعادل ثمانين تلميذاً من باقي المدارس – هذا تصريح يثير السخرية أكثر مما يثير الفخر. فإما أن يكون مبنيا على دراسة علمية دقيقة صادرة عن مؤسسات البحث التربوي، وإما أنه مجرد رقم مرتجل، قيل لتلميع خطاب إداري لا علاقة له بالواقع. وإذا كان الاحتمال الثاني هو الصحيح – وهو الأرجح – فنحن أمام كارثة حقيقية، إذ يُستعمل الرقم كأداة دعائية لتضخيم مشروع “مدارس الريادة”، دون أي أساس بيداغوجي أو علمي يبرر هذا الفارق الخرافي بين التلاميذ. لقد تحولت الأرقام بقدرة قادر إلى وسيلة لتزيين الفشل وإخفاء الواقع المرير الذي تعيشه أقسام مكتظة، ومؤسسات متهالكة، وموارد بشرية مرهقة. ومن العبث أن يتحدث مسؤول تربوي رفيع اليوم، عن هذه الفوارق الهائلة وكأننا أمام معادلات حسابية، في حين أن واقع التعليم المغربي مكشوف للجميع، ولا يحتاج إلى أرقام عشوائية لتأكيد أزمته.
ما يسمى بـ”مدارس الريادة” ليس سوى تسمية جديدة لتقسيم قديم، غايته إنتاج نخبة مصغرة داخل التعليم العمومي نفسه. فبدل أن نركز على تعميم الجودة ورفع مستوى الجميع، نخلق مؤسسات تجريبية نخبوية محاطة بالدعاية، بينما يظل باقي التلاميذ في مؤسسات “اللا ريادة” يتخبطون في الفقر البيداغوجي نفسه. هذا النوع من المشاريع لا يعالج الأزمة لكنه سيعمقها، لأنه ببساطة يرسخ الانطباع بأن المدرسة لم تعد وسيلة للترقي الاجتماعي للجميع، بل أداة لخلق طبقة متعلمة صغيرة في مواجهة جموع من المتعلمين الضعفاء، لأن أخطر ما في هذا النهج أنه يزرع الإحباط ويعمّق الإحساس بالغبن والظلم داخل المجتمع، ويحوّل المدرسة من فضاء للمساواة إلى فضاء للتمييز. وهكذا، يتجسد أمامنا ما يشبه نسخة تعليمية من الطبقية الاجتماعية التي يعاني منها المغرب في الاقتصاد والسياسة، فنصبح أمام طبقتين داخل نفس المدرسة العمومية: طبقة “الرائدين” وطبقة “المهملين”.
والسؤال الجوهري الذي أمكننا طرحه: كيف يمكن أن نتحدث عن “ريادة” في منظومة تعيش فشلاً هيكلياً على جميع المستويات؟ فالتجارب الإصلاحية السابقة – بدءاً من الميثاق الوطني للتربية والتكوين، مروراً بالبرنامج الاستعجالي، وصولاً إلى الرؤية الاستراتيجية 2015-2030 – لم تؤتِ أكلها، وأن المدرسة العمومية مازالت عاجزة عن تحقيق قفزة نوعية، بل استمرت المؤشرات في التراجع، نستحضر هنا تقرير البنك الدولي لسنة 2020 الذي أشار بوضوح إلى أن نصف الأطفال في سن العاشرة في المغرب عاجزون عن قراءة نص بسيط وفهمه، كما أن تقارير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) تؤكد أن المغرب يحتل مراتب دنيا في نتائج اختبارات “PISA” و”TALIS”. هذه المعطيات لا تترك مجالا للحديث عن أي ريادة محتملة، بل تدل على فشل متواصل في تحقيق الحد الأدنى من الجودة.
ثم إن ترتيب المغرب في التنمية البشرية، رغم بعض التحسن الطفيف في السنوات الأخيرة، ما يزال بعيدا عن الطموحات، ففي تقرير التنمية البشرية لسنة 2025، جاء المغرب في المرتبة 120 من أصل 193 دولة بدرجة 0.710، وهو تحسن عن السنوات الماضية لكنه رغم ذلك يظل تصنيفا متأخراً إذا ما قورن بالدول المجاورة أو حتى بعض الدول الإفريقية، وأن هذا الترتيب يعكس بوضوح أن الاستثمار في التعليم لم يؤت ثماره بعد، وأن المدرسة المغربية لا تزال عاجزة عن تكوين مواطن مبدع قادر على المنافسة في السوق العالمية. فإذا كان التعليم هو المؤشر المركزي في التنمية البشرية، فترتيب المغرب المتأخر ليس سوى نتيجة منطقية لهذا الفشل البنيوي. فهل يعقل بعد كل هذا أن نتحدث عن ريادة؟ أليست هذه مجرد محاولة للتغطية على الفشل عبر اختراع لافتات جديدة قد لا تغيّر شيئا من جوهر الأزمة؟
الأدهى أن مشروع “مدارس الريادة” يخلق تمييزاً مزدوجاً. فمن جهة، هناك تمييز واضح بين التعليم العمومي والتعليم الخصوصي، حيث يهرب أبناء الميسورين إلى المدارس الخاصة بحثا عن جودة نسبية، ومن جهة أخرى، يجري تقسيم التعليم العمومي نفسه إلى درجات، بحيث يصبح أبناء الفقراء غير متساوين حتى داخل نفس المنظومة. هذا التمييز المزدوج خطير للغاية لأنه يعمّق الفوارق الاجتماعية بدل تقليصها، ويجعل من المدرسة أداة لإعادة إنتاج نفس الطبقات الاجتماعية: نخبة صغيرة مهيأة للقيادة، وأغلبية واسعة محكوم عليها بالتهميش. إنها إعادة إنتاج لمنطق الهيمنة الطبقية الذي حذر منه علماء الاجتماع التربوي، والذي يجعل من المدرسة مؤسسة لاستدامة الظلم بدل أن تكون أداة للتنمية.
قد يبرر البعض هذه المشاريع بالقول إنها تجريبية وتهدف إلى تحسين الجودة، لكن الواقع يكذب ذلك. فقد سبق أن جُربت عدة برامج حملت نفس الشعارات: الجودة، الريادة، الكفاءة، لكن جميعها انتهت إلى الفشل لأنها لم تنطلق من إرادة سياسية حقيقية لإصلاح جذري، وأن ما يحدث في الواقع هو مجرد إعادة إنتاج لمنطق الدعاية والتسويق الإعلامي، حيث يُقدَّم مشروع جديد كل بضع سنوات، بينما يظل الواقع على حاله: أقسام مكتظة، بنيات تحتية متهالكة، مناهج متقادمة، وأطر تربوية منهكة.
تصريح مديرة الأكاديمية إذن، تعبير عن عقلية جديدة ترى في المدرسة العمومية مجالا للتقسيم الطبقي والتجريب غير المسؤول. هذه العقلية هي نفسها التي حولت المدرسة المغربية منذ عقود إلى ساحة للتجارب الفاشلة. لكن ما يثير الغضب أكثر هو احتقار ذكاء المواطنين، فحين يُقال لهم إن تلميذاً واحداً يعادل ثمانين آخرين، فهذا يعني أن المسؤولين يظنون الناس قطيعا قابلاً لابتلاع الأرقام الجوفاء، غير أن هذا النوع من التصريحات يزيد من فقدان الثقة في المؤسسات التعليمية، ويؤكد أن بعض المسؤولين يعيشون في أبراج عاجية لا علاقة لها بالواقع المرير الذي يعيشه التلاميذ وأسرهم يومياً.
إن مستقبل المغرب مرهون بإعادة الاعتبار الكلي للمدرسة العمومية، باعتبارها مشروعاً وطنياً شاملاً لا يقبل التجزيء ولا التمييز. وأن أي إصلاح لا ينطلق من مبدأ العدالة والمساواة هو إصلاح عقيم محكوم بالفشل. المطلوب اليوم ليس مدارس “ريادة” وأخرى “لا ريادة”، بل مدرسة عمومية موحدة، عادلة، مجانية، وذات جودة حقيقية، تضمن نفس الحظوظ لجميع أبناء المغاربة. غير ذلك، سنظل ندور في نفس الحلقة المفرغة: خطابات رنانة، أرقام مضخمة، مشاريع فاشلة، مقابل واقع قاس من الهدر المدرسي، الفوارق الصارخة، وتراجع ترتيب المغرب في التنمية البشرية. باختصار، الضعف لم يعد قابلاً للإخفاء، لأنه صار يُسوّق على شكل “ريادة” بين آلاف الأقواس.