المرأة المغربية في عهد الملك محمد السادس.. مسار التمكين الحقوقي والتنموي

عرفت قضايا المرأة المغربية منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش سنة 1999، دينامية إصلاحية غير مسبوقة، حيث تم فتح عدد من الأوراش السياسية والتشريعية والمؤسساتية التي أعادت الاعتبار للمرأة كمكون رئيسي في معادلة التنمية والمواطنة.
إلى جانب هذه الدينامية، شهدت السنوات الأخيرة تحولات عميقة في التعاطي مع قضايا النساء، تجلّت في الانتقال من منطق “المقاربة الاجتماعية” إلى “منطق التمكين الحقوقي والتنموي”، الذي ارتكز على رؤية شمولية تُقارب النهوض بأوضاع المرأة من زوايا متقاطعة تشمل التعليم، والصحة، والعدالة، والتمثيلية السياسية، والولوج إلى مناصب القرار.
وقد أسهمت هذه الرؤية الاستراتيجية في إرساء أرضية صلبة لتمكين النساء، تقوم على مبادئ الإنصاف وتكافؤ الفرص والعدالة المجالية والاجتماعية، من خلال اعتماد سياسات عمومية وبرامج قطاعية مندمجة تراعي خصوصيات المرأة في مختلف الجهات والفئات الاجتماعية.
وفي هذا الإطار، خصّ المحلل السياسي ورئيس المركز المغربي للدراسات والأبحاث المرجعية، إدريس قصوري، موقع ”برلمان.كوم“، بتصريح تناول فيه أبرز محطات تمكين المرأة المغربية خلال ربع قرن من حكم الملك محمد السادس. مستعرضا أبعاد هذا التمكين من حيث الإطار الحقوقي، السياسي، الاجتماعي، والتنموي، مع التركيز على الرؤية الملكية الحاسمة في هذا الورش.
رؤية ملكية تأسيسية.. ثلاث محطات مفصلية في مسار التمكين الحقوقي
قال المحلل السياسي إدريس قصوري إن العهد الجديد للملك محمد السادس شكّل لحظة فاصلة في تعاطي الدولة مع قضايا المرأة، إذ منحها الملك محمد السادس عناية غير مسبوقة، انطلاقا من قناعة راسخة بأن التنمية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق بنصف المجتمع فقط. مؤكدا أن هذه القناعة الملكية انبثقت منها رؤية تنموية شاملة تؤمن بضرورة إشراك النساء في البناء الوطني، على أساس مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص.
وأشار قصوري إلى أن هذه الرؤية الملكية لم تكن مجرد إعلان نوايا، بل تجسدت عبر ثلاث محطات مفصلية أحدثت تحولات عميقة في وضعية المرأة المغربية. كانت البداية سنة 2003، مع مراجعة مدونة الأسرة، والتي وصفها قصوري بأنها لحظة تحول جذري في بنية العلاقات داخل الأسرة المغربية، وفي الطريقة التي ينظر بها المجتمع إلى دور المرأة ومكانتها داخل هذه المؤسسة الحيوية.
أما المحطة الثانية، حسب تصريح قصوري، فتمثلت في دستور 2011 الذي رسّخ مبدأ المناصفة بين الجنسين، مانحا بذلك للمرأة المغربية حقها الكامل في المشاركة السياسية والمؤسساتية، كما اعتبر أن التنصيص الدستوري على المناصفة شكل نقلة نوعية في البناء الحقوقي بالمغرب، وقطع مع مرحلة التمييز التي كانت تعيق ولوج النساء إلى مراكز القرار والمسؤولية.
وخلص قصوري إلى أن المرحلة الثالثة من هذا المسار الملكي تمثلت في الدعوة إلى مراجعة جديدة لمدونة الأسرة، في أفق تصحيح الاختلالات التي برزت بعد تطبيقها وتقييم الحصيلة. مضيفا أن هذه المبادرات المتتالية أفضت إلى ترسيخ مرجعية دستورية واضحة لا رجعة فيها في مجال حقوق النساء، وأسهمت في تغيير نظرة الفاعلين السياسيين والمجتمعيين تجاه قضية التمكين النسائي، بما يعزز من حضور المرأة في مختلف مجالات الحياة العامة.
التمكين السياسي.. من تعزيز الحضور إلى تكريس الفاعلية والاستقلالية
وأوضح ذات المحلل السياسي أن الرؤية الملكية لتعزيز حضور المرأة المغربية في مراكز القرار السياسي تجسدت بشكل تدريجي وملموس، وذلك من خلال رفع تمثيلية النساء داخل المؤسستين التشريعية والتنفيذية. وقال “إن هذا التوجه لم يكن عشوائيا، بل عكس إرادة سياسية واضحة لإدماج النساء في الفعل السياسي، وفسح المجال لهن للاضطلاع بأدوار مؤثرة في صنع القرار العمومي”.
وأشار قصوري إلى أن هناك مؤشرات دالة على الانتقال من مرحلة الكم إلى النوع، حيث لم تعد مشاركة النساء في الحياة السياسية مجرد رقم لتأثيث المشهد، بل أصبحت نساء كثيرات يترأسن لجانا برلمانية ويشغلن مناصب مسؤولة داخل مجلس النواب، كما تحولن إلى فاعلات في مجالات الترافع والدبلوماسية البرلمانية، وهو ما يعكس تطورا نوعيا في الأداء السياسي النسائي.
وأكد ذات المتحدث أن اللوائح الوطنية ساهمت في توفير مدخل مناسب لحشد حضور نسائي وازن داخل البرلمان، ما مكّن من إحداث نقلة في الخطاب السياسي للمرأة المغربية. وأردف أن هذا التمثيل عزّز الثقة في قدرات النساء على خوض غمار السياسة، وأتاح لهن فرصة التعبير عن قضايا الشأن العام من زاوية مغايرة، تتسم بالواقعية والالتصاق بالقضايا المجتمعية.
ورغم هذا التطور، شدّد قصوري على أن استقلالية المرأة داخل الحكومة والمؤسسات السياسية لا تزال محدودة. واعتبر أن عددا من الوزيرات يعملن تحت إشراف مباشر لرئيس الحكومة أو وزراء أقوى نفوذا، ما يضعف هامش حركتهن الذاتية، كما لفت إلى أن الإعلام لا يُنصف الوزيرات في تغطيته لأدائهن، بالمقارنة مع زملائهن الرجال، وهو ما يشكل عائقا أمام بناء صورة نسائية قيادية مستقلة ومؤثرة في الرأي العام.
المفارقة الاجتماعية: تمكين نسائي متقدم.. ورهان تعميم التأثير
وأبرز الأستاذ الجامعي إدريس قصوري أن الإنجازات المحقّقة في المجالين السياسي والحقوقي لم تنعكس بالشكل المطلوب على الوضع الاجتماعي للمرأة المغربية. مشيرا إلى أن هناك فجوة حقيقية لا تزال قائمة بين ما تحقق على مستوى النخبة السياسية والمؤسساتية، وبين واقع النساء في الفئات الهشة والطبقات الشعبية، معتبرا أن هذا التفاوت يمثل إحدى أبرز الإشكاليات البنيوية لمسار التمكين.
وأكد قصوري أن النساء في العالم القروي والمناطق الهامشية لا يلمسن فعليا ثمار هذا المسار، موضحا أن التقارير والمؤشرات الاجتماعية تكشف استمرار معاناة المرأة مع الفقر والتهميش وضعف فرص الاندماج الاقتصادي والاجتماعي، كما أشار إلى أن التفاوتات الجغرافية والاجتماعية تُضعف من أثر السياسات العمومية، وتحول دون بلوغ أهداف الإنصاف والمساواة على أرض الواقع.
وأوضح المتحدث ذاته أن الوضع في المدن الكبرى يبدو نسبيا أفضل من القرى والمناطق المهمشة، لكنه مع ذلك لا يرقى إلى مستوى تطلعات المرأة المغربية ولا يعكس عمق الإصلاحات الدستورية والمؤسساتية التي راهن عليها المغرب منذ عقدين. مشددا على أن مجرد التواجد في محيط حضري لا يعني بالضرورة الاستفادة من ثمار التمكين، خاصة مع استمرار البطالة والعنف والتهميش في بعض الأحياء الشعبية.
التعليم.. قصة نجاح أنثوي
من جهة أخرى، أشاد المحلل إدريس قصوري بما وصفه بـ”التأنيث الصاعد” في قطاع التعليم العالي بالمغرب، مشيرا إلى الأرقام والمعطيات التي تثبت تفوق الإناث في نتائج الباكالوريا، وكليات الطب، والحقوق. وقال إن هذه المؤشرات تعكس التزاما كبيرا وجدية مستمرة لدى الفتيات، ما يجعل التعليم مجالا مميزا يُبرز قدرات المرأة المغربية على التفوق الأكاديمي.
وأضاف أن هذا النجاح العلمي لا يقتصر على التفوق الفردي، بل يشير إلى تحول في العقلية الاجتماعية تجاه دور المرأة في المجال التعليمي، مع تزايد عدد الطالبات اللائي يحققن نتائج مشرفة تمكنهن من مواصلة مسارهن المهني بشكل واعد. ومع ذلك، نبّه قصوري إلى أن هذا التقدم العلمي لا يرافقه دائما تطور مماثل على مستوى سوق الشغل، حيث لا تزال المرأة تواجه تحديات في التوظيف، وفي تقلد المسؤوليات الإدارية والقيادية.
ومن هنا، يُظهر التفوق النسائي في التعليم العالي تحولا عميقا في البنية الاجتماعية والثقافية المغربية، حيث استطاعت الفتيات تحدي الصورة النمطية التقليدية التي كانت تحد من طموحاتهن، حيث يعكس هذا التحول تأثير السياسات التعليمية التي شجعت على دمج الفتيات وتشجيعهن على متابعة دراسات عليا في تخصصات كانت حتى وقت قريب حكرا على الرجال.
التمكين الاقتصادي: من رأس الهرم إلى قاعدته.. مسار يتوسع
وأكد إدريس قصوري أن المرأة المغربية تشهد تطورا ملحوظا في الوصول إلى المناصب العليا داخل الإدارات والمؤسسات، مشيرا إلى أن هذا يشكل مؤشرا إيجابيا على نجاح مسار التمكين الاقتصادي للنساء. لكنه لفت الانتباه إلى أن هذا التطور يظل محصورا في القمة، بينما القاعدة الاقتصادية والاجتماعية للنساء ما تزال تعرف ركودا واضحا، حيث تستمر المرأة في أداء أدوار هامشية في غالبية المؤسسات، دون فرص حقيقية للتقدم الاقتصادي والتشغيلي.
وأشار إلى أن غياب دينامية التمكين الاقتصادي الحقيقي على مستوى القاعدة يؤثر سلبا على المردودية الاجتماعية العامة للمرأة، ويحدّ من فرص تعزيز استقلاليتها الاقتصادية والاجتماعية. فيما اعتبر قصوري أن معالجة هذه الإشكالية تتطلب سياسات أكثر شمولية تهدف إلى تمكين المرأة في كل المستويات، بحيث لا يقتصر النجاح على النخبة بل يشمل كل النساء في المجتمع.
إذ يتضح أنه في ضوء ما تحقق من إنجازات على مستوى تمكين النساء في المناصب العليا، يبرز الأمل في أن يشكل ذلك منطلقا لتوسيع دائرة الاستفادة نحو القاعدة الاجتماعية الأوسع. فمسار التمكين الاقتصادي للمرأة المغربية، وإن انطلق من رأس الهرم، بات اليوم أمام فرصة تاريخية للانتقال إلى مرحلة أكثر شمولية وعدالة.
كما أن تعزيز السياسات الداعمة للتشغيل النسائي، وتوسيع ولوج النساء إلى المشاريع المدرة للدخل، وتيسير الولوج إلى التمويل والتكوين، كلها روافع حقيقية كفيلة بجعل التمكين الاقتصادي رافعة للتنمية الشاملة، تضمن للمرأة استقلالية أكبر ومكانة أرقى في النسيج الاقتصادي الوطني.
وبالتالي، فإن الرؤية الملكية تحت قيادة محمد السادس شكلت نقطة تحول حاسمة في مسار تمكين المرأة المغربية، حيث أسس الملك محمد السادس لقاعدة قوية ومتينة من التشريعات والسياسات التي عززت من مكانة المرأة وأعطتها حقوقها المشروعة. كما ترجمت هذه الرؤية الملكية إلى إنجازات ملموسة على الأرض، من مراجعة مدونة الأسرة إلى دستور 2011، وصولا إلى تعزيز التمثيلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمرأة، وبفضل هذه الإرادة السامية، أصبح للمرأة المغربية دور فاعل ومحوري في مختلف ميادين الحياة، مما ساهم في إرساء مجتمع أكثر توازنا وتطورا.
كما أظهرت هذه الفترة نجاحا ملحوظا في بناء منظومة متكاملة من الدعم والتمكين، تستند إلى مبادئ الإنصاف والمساواة وتكافؤ الفرص، حيث رافق هذا المسار نهج تشاركي مع مختلف الفاعلين السياسيين والمؤسساتيين والمجتمعيين، وقد أتاح هذا الجو الملائم للمرأة المغربية أن تحقق نجاحات بارزة في التعليم والعمل والسياسة، مما يعكس عمق الالتزام الملكي والتشريعي الذي يُشكل نموذجا يحتذى به على الصعيدين الإقليمي والدولي.





