المسيرة الخضراء في دار المغرب: ملحمة وطن وامتداد نبض بين ملك وشعب

في قلب باريس، حيث تنبض ذاكرة المهاجرين بروح الوطن البعيد، إنفتحت أبواب دار المغرب كأنها بوابة من نور وتاريخ، تستقبل أبناء المملكة للاحتفاء بملحمة لا تشيخ: المسيرة الخضراء ، تلك التي ما زالت تروى كأنها وقعت البارحة، وما زالت تنبض في وجدان المغاربة جميعا كقصيدة تتوارثها الأجيال.
تألقت الدار في ثوبها المغربي الأصيل تحت إشراف مديرها السيد حمو تاوريرت، الذي جعل من الفضاء بيتا للذاكرة والهوية، يحتضن الأجيال المختلفة في لحظة إستثنائية جمعت الفكر والعاطفة، التاريخ والمستقبل. وقد بدا أن المكان نفسه يتنفس فخرا بالوطن، ويهمس باسم الصحراء المغربية كما يهمس القلب باسم محبوبه الأول.
حضر الاحتفال نخبة من الدبلوماسيين والمفكرين، من بينهم القناصل العامون للمملكة في باريس وأورلي، إلى جانب رؤساء بلديات من المدن الصديقة، وطلاب الدكتوراه والماستر المقيمين بالمدينة الجامعية. كان اللقاء عرسا وطنيا بامتياز، إمتزجت فيه المروءة بالمعرفة، والحنين بالتحليل، فأشرقت الكلمات كشموع على مائدة الذاكرة.
وتألقت الأمسية بمحاضرة وشاملة، ألقاها كلّ من المؤرخ رشيد بوفوس والدكتور يوسف شهاب، أستاذ العلوم الجيوسياسية والتنمية الدولية بجامعة السوربون في باريس. وقد استعرض الدكتور شهاب أبرز مضامين كتابه الصادر حديثًا بفرنسا، والمتناول لقضية نزاع الصحراء، حيث كشف خلال عرضه عن معطيات تنشر لأول مرة، مما أضفى على المحاضرة طابعًا فكريًا مميزًا. وقد حاز هذا المؤلَّف تقدير الأوساط الأكاديمية، إذ نال جائزة المعهد العالي للدراسات الجيوستراتيجية والعلاقات الدولية، اعترافا بقيمته العلمية وإسهامه في تعميق الفهم الجيوسياسي لهذه القضية.
وقد قاد المفكرون الحضور في رحلة عبر دروب التاريخ وممرات السياسة، حيث توقفت القلوب قبل العقول أمام عظمة المسيرة الخضراء وأبعادها الإنسانية والسياسية، وكيف استطاع المغرب أن يكتب صفحة النصر بالحكمة لا بالقوة، وبالإيمان لا بالسلاح.
كانت المسيرة الخضراء، كما قال المؤرخون، أجمل تجسيد لإرادة الأمة المغربية تحت راية الملك الراحل الحسن الثاني. لقد اختار الملك أن يجعل من قلبه سلاحا ومن شعبه جيشا من المحبة، فأطلق النداء العظيم، واستجاب له مئات الآلاف من المغاربة، رجالا ونساء، شيوخا وشبابا، يحملون القرآن والعلم الوطني، لا البنادق. كانت تلك لحظة ولادة جديدة للمغرب، ولحظة وعي بأن القوة الحقيقية تسكن في الإيمان بالحق وفي حب الوطن.
ثم جاء عهد الملك محمد السادس نصره الله، فامتدت جذور المسيرة في الأرض، كما ينبت النخل في الرمل ليحيا رغم العطش. جعل جلالته من الصحراء المغربية ورشا مفتوحا للتنمية والتجديد، فصارت المدن تزدهر، والموانئ تنبض بالحركة، والطرقات تشقّ كأنها شرايين جديدة للحياة. وما زرعه الحسن الثاني في الوجدان، يرعاه اليوم محمد السادس في العمران والإنسان، لتظل المسيرة الخضراء نبتة خضراء لا تجفّ مهما اشتدت الرياح.
وفي دار المغرب تلك الليلة، كانت الذكرى أكثر من احتفال؛ كانت عودة رمزية إلى الذات الجماعية. اختلطت فيها أصوات الشباب بأسئلة الفكر، وابتسامات الدبلوماسيين بهيبة التاريخ، فتحوّل الحدث إلى سيمفونية وطنية تعزفها ذاكرة واحدة، وترددها قلوب متباعدة بالمسافة متحدة بالهوية.
لم يكن اللقاء مجرد لحظة عابرة، بل ملحمة حية تتنفس عبر كل قلب حاضر، تجسيدا للدور التاريخي للمغرب في حماية وحدته الترابية، وتأكيدا أن المسيرة الخضراء ليست ماض يروى، بل حاضر يعاش ومستقبل يكتب كل يوم. إنها الروح التي توحد المغاربة من الرباط إلى الداخلة، ومن الدار البيضاء إلى باريس. إنها شعلة لا تنطفئ، ووعد يتجدد، وحكاية وطن كتبها الحسن الثاني بحبر القلب ويواصل محمد السادس نصره الله رسمها بحكمة الرؤية والبناء.





