المُنجز الأمني في القضايا الوطنية

لا يمكن فصل المنجز الوطني عن سياقاته ومؤسساته ورجالاته والأدوار التي لعبها كل واحد في تحقيقه، فالانتصار في ملف الصحراء، في الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، هو انتصارا لعدالة القضية بالأساس، ساهمت فيه بنية مؤسسية تسمى الدولة. ضمن هذا التصور شكل المنجز الأمني طيلة العشر سنوات الأخيرة واحدا من روافد هذا التقدم، إذ لعبت الديبلوماسية الأمنية، عبر الشراكات والتنسيق والتعاون الاستخباراتي ومن خلال نموذج أمني وطني، دورا في إعادة ترتيب علاقات المملكة مع الخارج وتعزيز مكانتها كشريك موثوق وعامل استقرار إقليمي ودولي استقطب دولا لها تقاليد عريقة في العمل الاستخباراتي.
لقد منح التعاون الأمني الدولي المملكة إشعاعا أكثر ويجعل منها فاعلا مركزيا وعامل استقرار في فضاء جغرافي متقلب، فالتنسيق مع دول أوربا وإفريقيا والولايات المتحدة الأمريكية وضع المؤسسة الأمنية في قلب السياسات الخارجية للبلاد، ما يجعل منها اليوم طرفا في النجاحات التي تحققت بفضل هذا التكامل بين السياسي والدبلوماسي والأمني، آخرها في القضية الوطنية الأولى للمغاربة. شكل الأمني مدخلا للفاعل الرسمي في إدارة ملف الوحدة الوطنية، به تعززت الثقة والشراكة والنفوذ. يمكن أن نستحضر زيارات المسؤولين الأمنيين من فرنسا وبريطانيا وأمريكا، الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن إلى مقر المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني وتوقيع شراكات أمنية للتعاون ومكافحة الجريمة، كما يمكن أن نستحضر رسائل التنويه والأوسمة التي وشحت النموذج الأمني المغربي عرفانا واعترافا.
لطالما أظهر النموذج الأمني المغربي تفوقه الاستخباراتي في مجال التعاون الدولي، بما يُثبت في كل مرة أن خيار المواجهة عبر آليتي الوقاية والاستباق أنجع وأقوى من ّتدريب المجتمع على الصمود” كاستراتيجية أمنية تبنتها العديد من البلدان الغربية في مكافحة الإرهاب، وقد بينت الممارسة أن تعزيز النموذج الوطني وتسويقه، ضمن شراكات واتفاقيات وقعتها المؤسسة الأمنية خلال العقد الأخير، تطلب البناء على تراكم وذاكرة استخباراتية قوية تشكلت على مدار سنوات وأسهمت في ترصيد النموذج الأمني الوطني دون حاجة إلى تجريب الاستراتيجيات المستوردة من الخارج.
في وقائع تاريخية كثيرة من التعاون لمكافحة الإرهاب تبين كيف أن بلدانا لها تقاليد راسخة في العمل الاستخباراتي تحولت تدريجيا نحو تجريب النموذج المغربي، والتقليل من مخاطر الهجمات الإرهابية عبر التنسيق الأمني والتدخل الاستباقي بدل الاكتفاء ببناء القدرة الوطنية المجتمعية على المواجهة، فالأخيرة تعني أيضا تبادل المعطيات الأمنية وتفكيك الخلايا الإرهابية ومنعها من تنفيذ مخططاتها بدل الارتهان إلى تدريب المجتمع على الصمود واعتبار أن الهجمات الإرهابية حوادث أمنية قائمة وممكنة. لقد أظهر النموذج الأمني المغربي قدرته على ممارسة نوع من التأثير على بلدان أخرى، ويمكن أن نقدم العملية الأمنية التي أفصت إلى توقيف الشرطة الهولندية قاصرا للاشتباه في تورطه في الإرهاب والتطرف العنيف كنموذج لهذا التأثير العابر للحدود. فالمعلومات التي قدمتها مديرية مراقبة التراب الوطني كانت حاسمة في تنفيذ تدخل استباقي وقائي بمنطقة “سيتارد” جنوب هولندا.
ليست الحالة الأولى، لكن واحدة من عمليات أمنية كثيرة أسهمت من خلالها المصالح الأمنية في منع هجمات إرهابية داخل بلدان أوربية، حدث ذلك في لحظات عديدة منعت فيها المعلومات الاستخباراتية الصادرة عن مديرية مراقبة التراب الوطني، وقوع هجمات وشيكة. في شمال أوروبا ساهم تبادل المعلومات الاستخباراتية مع المغرب في إجهاض هجمات إرهابية على الدانمارك في 2009، وبعدها في إفشال استهداف بابا الكنيسية الكاثوليكية في روما ومخفر للشرطة بنفس المدينة تواليا سنتي 2010 و2013.. لاحقا شكلت هجمات “باريس” سنة 2015 واحدة من أقوى لحظات التفوق الاستخباراتي المغربي. وبعدها في سنة 2016 اعترفت الداخلية الألمانية بتجاهل مصالحها لتحذيرات أمنية مغربية من هجمات برلين. وفي صيف 2017 ساهمت الأجهزة الأمنية في التحقيقات التي تلت هجمات برشلونة الإسبانية. وفي فبراير سنة 2021 أشادت وكالة الاستخبارات المركزية بتعاون المخابرات المغربية في مكافحة الإرهاب عقب مساعدة الأخيرة واشنطن في توقيف جندي أمريكي مرتبط بتنظيم “داعش”، ومع الإسبان تطورت الشراكة الأمنية من تبادل المعلومات إلى تنفيذ عمليات مشتركة ومتزامنة لتفكيك خلايا إرهابية تنشط بين البلدين.
لقد استفاد المغرب من نجاعة الأداء الأمني في تشبيك علاقاته الخارجية، وكان رهان الملك على المُنجز الأمني في الداخل والخارج تحديا كبيرا تم تحقيق أهدافه، فجعل منه استثمارا طويل الأمد في العلاقات الدولية للمملكة إذ انتبه مبكرا إلى الوظائف الكامنة لمؤسسة أمنية قوية، تجربة يمكن البناء عليها في مسارات وطنية أخرى مقبلة.





