اخبار المغربرأي في قضيةمستجدات

تأملات في انحدار الأكاديمية المغربية

الخط :
إستمع للمقال

في زمن كبار الأكاديميا المغربية، لم تكن العلاقة بين الأستاذ والطالب علاقة عاطفية أو اجتماعية، بل كانت علاقة علمية صرفة، تنسج خيوطها داخل محراب المعرفة، وتنتظم ضمن نسق صارم من الالتزام المنهجي والانضباط الفكري. إذ لم يكن الأستاذ يُعرف بشخصه، أو بتعاطفه، أو بانفتاحه على الطالب في جلسات الشاي والنقاشات الجانبية، بل يُعرف بانتمائه إلى منهج فكري، إلى مدرسة معرفية، إلى تصور للعالم وللواقع وللنص. كان يُقدَّر بقدر ما يُضيف إلى الحقل المعرفي من مقاربات، وبقدر ما يحمله من أدوات تحليلية، ومن صرامة علمية تؤهله للمساءلة والاشتغال المعرفي المنتج. فحين يُذكر الجابري، يستحضر العقل العربي في تجلياته البنيوية الإبستمولوجية، وحين يُذكر العروي، يحضر التاريخ كسؤال وكهاجس، وتبرز الحداثة كسيرورة لا كمشروع جاهز. ومع طه عبد الرحمن، كان العالم الأخلاقي الماورائي يعيد تشكيل المفاهيم على ضوء الائتمان المعرفي. ويقطين، حين نقرأه، لا يطل علينا كاسم، بل كنسق تأصيلي يعيد بناء اللغة والسرد من قلب الثقافة العربية. أما محمد بنيس، فكان الصوت الآخر لحداثة شعرية تحفر عميقاً في جسد اللغة، وتجعل من الكتابة ممارسة جسدية، طقسية، لا تنفصل عن التجربة الوجودية.

كان الطالب بدوره يدخل الحقل الأكاديمي لا باحثاً عن امتياز أو درجة، بل حاملاً لمشروع معرفي، يشتغل بصمت، يترحل بين المراجع والمناهج، يتورط في الجدل النظري، ويبحث عن فرادته داخل خرائط فكرية متشابكة. لم يكن الأستاذ يعرف الطالب باسمه أو ملامحه، بل يقرأه من خلال منجزه، من خلال مقاله، من خلال مدى تمثله للمنهج ومدى قدرته على تفكيك الخطاب وإعادة تركيبه.

لقد كان الانتماء إلى المعرفة شرطا أوليا للانتماء إلى الجامعة، وكانت الألقاب الجامعية تكتسب قيمتها من رصانة الفكر، لا من وهج السياسة أو شبكات المصالح أو هالة الإعلام. كما كان الحرم الجامعي آنذاك فضاء مقدساً للبحث، لا مكاناً للاستعراض أو لتصفية الحسابات.

لكن يا ليت الزمان يعود يوماً… فقد حل بعض الخراب محل البناء، وتسللت الرداءة إلى عصب الأكاديمية، وتراجعت الأسماء الثقيلة التي كانت تزن بمناهجها ومشاريعها الفكرية، لتحل محلها بعض الأسماء الزائفة، التي تلبس عباءة العلم، وتخفي خلفها أجندات لا علاقة لها بالبحث، ولا حتى بالمعرفة. حتى كدنا نجزم بأن الانتماء المنهجي أصبح ترفاً فكرياً، وأمسى التفكيك والتأصيل والتاريخانية والإبستيمولوجيا مجرد مفاهيم يلوكها من لا يعرفون الفرق بين المنهج والموقف. حتى صار الباحث يُعرف بانتمائه إلى شبكة علاقات، لا إلى نسق فكري، وهكذا تراجع المعنى، وغلب المبنى، وأصبح الطالب – في بعض الأحيان – يدخل الجامعة ليبحث عن الواسطة لا عن المنهج، عن الشهادة لا عن المعرفة، وعن الرضا لا عن النقد.

إن الفساد الذي نخر جسد الجامعة لم يكن مجرد فساد إداري أو مالي، بل كان فساداً معرفياً وأخلاقياً في جوهره. لقد انقلبت القيم، وانهارت المعايير، وصار الخطاب العلمي نفسه عرضة للمزايدة والاستهلاك والتوظيف السياسوي. وتحولت الجامعة، من فضاء لصناعة الأفكار إلى سوق لتمرير الشعارات. اختفى الجدل النظري، وبهت النقاش المنهجي، وصار الاهتمام منصباً على التفاهة والتسويق الشخصي. لم نعد نميز بين الباحث والمقاول، بين الأستاذ والمهرج، بين الموقف المعرفي والموقع الوظيفي. تفككت الصرامة الإبستمولوجية، وانهار النسق الأخلاقي، وذبلت الزمالة الأكاديمية، لتحل محلها علاقات نفعية تُبنى على المحاباة والتملق والمصلحة.

وتتجلى إحدى أخطر مظاهر هذا الانهيار في تفشي ظاهرة بيع الشهادات، التي تحوّل فيها بعض الأكاديميين إلى سماسرة يفاوضون على المستقبل المعرفي للأجيال. وليس آخر الأدلة ما كشفته قضية اعتقال أستاذ بجامعة ابن زهر بأكادير، بتهم تتعلق بتزوير وبيع الشهادات الجامعية، وهو الحدث الذي هزّ الرأي العام الأكاديمي، وكشف حجم الاختلالات البنيوية التي ينخر بها النظام الجامعي. حيث لم يعد الأمر يتعلق بخروقات معزولة، بل بمنظومة موازية تستثمر في الجهل والانتهازية، وتحوّل الشهادة الجامعية إلى سلعة خاضعة للعرض والطلب، بعيداً عن أي معيار علمي أو أخلاقي. نعم إنها فضيحة تمسّ جوهر الوظيفة الجامعية، وتضع علامات استفهام كبرى حول مسؤولية الدولة، ومجالس الجامعات، والنقابات، وكل المتواطئين بالصمت أو الحياد السلبي أو بالتبرير الخادش لكرامة الجامعة .

إن ما نعيشه اليوم ليس فقط لحظة أفول، بل لحظة انكسار معرفي وأخلاقي شامل. فحين تتحول الجامعة إلى فضاء لتكريس الرداءة، وحين يصبح الأستاذ رمزاً للانتهازية، لا القدوة العلمية، فإننا أمام انهيار مزدوج للمعنى وللدور. إذ لم تعد المناهج حاضرة إلا كديكور، ولم تعد الكتابات إلا مجرد تكرارات مملة تفتقر للعمق وللجرأة وللمساءلة. نعم لقد انقطع النَفَس الفكري، وتبخرت روح النقد، وذابت الأسئلة الكبرى في صخب الخطابات الشعبوية. وتحول الطالب إلى مستهلك، لا باحث، وإلى مقلد، لا مبدع، وإلى تابع، لا ناقد.

لقد كان الأكاديمي المغربي في الزمن الجميل رمزاً للنخبة، لا لاحتقار العامة، بل لتحمل مسؤولية طرح الأسئلة العميقة التي لا يجرؤ عليها أحد. كان المثقف الجامعي يتقاطع مع المفكر، ومع المصلح، وكان يمارس وظيفته المعرفية كمن يمارس مقاومة ضد الرداءة، وكمن يخوض معركة ضد الجهل المؤسساتي. أما اليوم، فإن التواطؤ مع الرداءة أصبح هو القاعدة، والمسايرة هي العملة الرائجة.

هل يمكن أن تعود الجامعة إلى زمنها الجميل؟ هل يمكن أن نسترجع زمن العروي والجابري ويقطين وبنيس والمديني والعوفي؟ هل يمكن أن نعيد الاعتبار للانتماء المنهجي، لا للموقع المؤسساتي؟ إنها أسئلة مؤلمة، لكنها ضرورية. فالنقد هو الخطوة الأولى نحو الإصلاح، والاعتراف بالانهيار هو أول لبنة في إعادة البناء. لا بد من ثورة معرفية وأخلاقية تعيد للجامعة هيبتها، وللأستاذ مكانته، وللطالب طموحه. ولا بد من إعادة الروح إلى البحث الأكاديمي، ومن محاسبة الفاسدين الذين حولوا الحقل الجامعي إلى مَزارع خاصة.

لا يمكن للجامعة أن تنهض دون استقلال فعلي، ولا يمكن للبحث العلمي أن يزدهر في ظل الفساد، ولا يمكن للفكر أن يتحرر في مناخ يسوده الخوف والمجاملة والانبطاح. الجامعة لا تُصلَح بقرارات فوقية، ولا بتعليمات إدارية، بل بعودة الوعي والمنهج والنقد. لا بد من ترسيخ ثقافة الجدل، من استعادة المعنى، من مقاومة السطحية، من الانتصار للعقل. فلا معرفة بدون مساءلة، ولا علم بدون أخلاق، ولا جامعة بدون حرية.

إن من يحِنّ إلى زمن الكبار لا يفعل ذلك من باب الحنين الرومانسي، بل من باب الحنين إلى العمق، إلى الصرامة، إلى الجدوى. ومن يريد أن يحكي للزمن ما فعله الفساد، عليه أن يصرخ، أن يكتب، أن يفضح، أن يُحرج، لأن الفساد لا يختبئ إلا في الصمت، ولا يترعرع إلا في غياب النقد. لقد آن الأوان أن نُعيد للجامعة المغربية روحها، أن نُعيد للمناهج هيبتها، أن نُحيي ذلك الأفق الذي جعل من الفكر المغربي رائداً في العالم العربي، لا تابعاً.

ويا ليت الزمان يعود يوماً، لا لنحكي له ما فعل الفساد، بل لنقول له: ها نحن نعيد بناء ما تهدم، ونستأنف ما انقطع، ونسترجع ما اختُلس. لقد وعينا الدرس، وقررنا أن لا نترك الجامعة لقوى الجهل والابتذال. فالرهان اليوم ليس فقط على الجامعة، بل على مستقبل الفكر في هذا الوطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى