اخبار المغربرأي في قضيةمستجدات

غنيمة حزبية في هيئة دعم عمومي

الخط :
إستمع للمقال

في مشهد سريالي غريب لا تنقصه الجرأة ولا الصفاقة السياسية، صرّحت كاتبة الدولة المكلفة بالصيد البحري، بكامل “البراءة المتوحشة”، أن زميلها في حزب “التجمع الوطني للأحرار” استفاد من دعم عمومي بقيمة 11 مليون درهم لإنشاء مفرخة. لا حرج في الأمر، ولا مسّ لقواعد الحياد السياسي أو للنزاهة المفترضة في تدبير المال العام، بل بدا التصريح كاحتفاء داخل قبيلة سياسية تحتفل بـ”فتح جديد” في مسار استيلائها المنهجي على أموال الدولة.

هكذا، ومن دون مواربة، صار الدعم العمومي يُقدَّم، لا كأداة للدفع بالقطاعات المنتجة أو تشجيع المبادرات المواطِنة، بل كغنيمة تُوزَّع على المقربين، وسط صمت مريب من المؤسسات المفروض فيها ضمان العدالة والشفافية والإنصاف. لم تعد الدولة فضاءً للتوازن بين المصالح، بل تحولت، بأيدي هؤلاء، إلى مِلْكٍ خاص تُدار بمنطق الولاء السياسي، وتُستثمر كصندوق انتخابي احتياطي.

إنها لحظة سريالية يذوب فيها الفارق بين الدولة والحزب، بين المال العمومي ومصالح الأقلية المتنفذة. إذ أننا لم نعد إزاء انحراف ظرفي، بل أمام بنية مريضة، يتداخل فيها الاقتصادي بالحزبي، في توليفة أوليغارشية هدفها تأبيد الامتياز لا بناء مشروع وطني. ولأن الدعم العمومي لم يعد أداة للإنصاف الاجتماعي، بل صار بفضل هؤلاء، قناة إضافية لتغذية الفوارق وتعميق التفاوتات الطبقية، ضمن هندسة محسوبة قبلا تسعى إلى ضمان التوريث السياسي لمواقع الريع.

إن هذا التصريح، في حد ذاته، يُمثّل لحظة سقوط أخلاقي فادح، إذ يُعلن أصحاب القرار – من داخل الحكومة – أن الدولة ليست سوى جائزة في يد الحزب الفائز، وأن ما يُوزَّع من موارد عمومية لا يُحتَكم فيه إلى المصلحة العامة، بل إلى منطق الغلبة والسيطرة والانتماء التنظيمي. وبدل أن يحرص المسؤول الحكومي على التكتُّم اتّقاءً للفضيحة، يفصح عنها مزهواً، بما يشبه التباهي في زمن غابت فيه الرقابة وانهار فيه منسوب الخجل السياسي.

إن ما يُمارَس اليوم هو شكل من أشكال النهب المقنّن والمبالغ فيه بسبب قوة النفوذ وضعف الوجاهة، ويتم تحت يافطة المؤسسات، وداخل إطار “ديمقراطي” مُفرغ من محتواه، في وقت تتآكل فيه مصداقية مؤسسة الحكومة بفعل هذا التواطؤ الفج بين الثروة والسلطة. ومن نافلة القول إن استمرار هذا المسار سيقود إلى مآلات خطيرة، لأن تقويض الثقة في مؤسسات الدولة لا يحدث دفعة واحدة، بل يتراكم مع كل فضيحة تمرّ مرور الكرام، ومع كل تساهل ممن يُفترض فيهم الضبط والمحاسبة.

ما يجري اليوم هو إنتاج منهجي لحالة من اللاشرعية، وخلق يومي لشعور عام بالظلم، تتغذى منه الاحتجاجات، ويتحوّل في النفوس إلى احتقان شعبي بلا بوصلة. والأسوأ أن هذا الاحتقان لم يعد محصوراً في الفئات الهامشية، بل بدأ يتسرب إلى فئات وسطى كانت حتى الأمس القريب تُراهن على المؤسسات، وتؤمن بإمكانية الإصلاح من الداخل.

ولأن الأمر لم يعد يخص حالة فردية أو قراراً معزولاً، فإن السؤال الأهم الذي يفرض نفسه هو: ما الجدوى من الدعم العمومي إذا كان مجرد وعاء لتمويل الأحزاب المتغولة؟ ما مصير الوطن حين تُفرَّغ المؤسسات من محتواها، ويُداس القانون لحساب موازين القوة الزبونية؟ وهل سنواصل الحديث عن “الاستثناء المغربي” في ظل هذا الإفلاس المزدوج: الأخلاقي والسياسي؟

إن ما نحتاجه اليوم، ليس فقط فضح هذه الممارسات، بل مساءلة المنظومة التي تنتجها، وتحويل الغضب الشعبي إلى فعل سياسي منظم، يستعيد للدولة معناها، وللمؤسسات هيبتها، وللديمقراطية مضمونها الفعلي.

اللهم إنّا قد بلّغنا، اللهم فاشهد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى